للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كيفية اجتياز السلف للغربة وإقامة الدولة الإسلامية القوية]

لقد أدرك سلفنا الصالح كيف يتجاوزون مرحلة الغربة، وكانوا يتطلعون إلى الجهاد في سبيل الله، والله تعالى يقول لهم: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء:٧٧] حتى إذا أذن الله عز وجل لهم بالجهاد في سبيل الله قامت دولة الإسلام في أقرب وأسرع وقت عرفه التاريخ، فكان سلفنا الصالح يتسابقون إلى الجنة أكثر من تسابق الناس في أيامنا الحاضرة إلى الحياة الدنيا ومتاعها.

كان أحدهم يقول ومعه تمرات: (والله إنها لحياة طويلة إن عشت حتى آكل هذه التمرات وكان شابان من شباب المسلمين يتسابقان في وسط المعركة كل منهما يبحث ويقول: أين أبو جهل؟ لا عشت إن عاش؛ لأني علمت أنه يؤذي رسول الله) ثم ينقضان عليه كالصقرين يتسابقان إلى قطع رأسه.

أدرك المسلمون كيف يجتازون تلك المرحلة، وإذا أردت دليلاً على ذلك فسل: أين قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين بلغ عددهم في حجة الوداع ما يزيد على مائة ألف؟! إنها متناثرة في أرض الله الواسعة تحت الشمس، انطلقوا يبشرون هذا العالم بدين الله عز وجل، ولم تمض إلا مدة وجيزة حتى رفرف علم الإسلام على أكثر المعمورة، حينما علم المسلمون الأوائل كيف يتجاوزون هذه المرحلة، رفرف علم الإسلام على أكثر المعمورة، حتى كان أحد خلفاء الدولة الإسلامية في بغداد -وهو هارون الرشيد - يرفع رأسه إلى السماء ويقول: أيتها السحابة أمطري حيث شئت، فسيأتيني خراجك ولو بعد حين.

ويذهب قتيبة بن مسلم إلى جهة المشرق ويفتح البلاد، ويستقر في بلاد ما رواء النهر ثم يجلس ذات يوم مع أصحابه ويقول: يا قوم! أي بلاد أمامي؟ فيقولون: يرحمك الله أيها القائد، إنها بلاد الصين.

فيقول: والله لا أرجع إلى بلادي حتى أطأ بقدمي هاتين أرض الصين، وأضع وسام المسلمين على الصينيين، وأفرض عليهم الجزية.

ثم تصل الأخبار إلى ملك الصين، ويخاف من هذا الجيش اللجب الذي أقبل يحمل أرواحه بأكفه، فأرسل إلى قتيبة يقول: هذه تربة من أرضنا بصحاف من ذهب يطؤها قتيبة وهو في مكانه، وهؤلاء أولادي الأربعة يضع عليهم الوسام، وهذه الجزية وستصل إليه كل عام في بلاده.

من منطلق القوة والعزة التي هي لله عز وجل ولرسوله وللمؤمنين.

أما عقبة بن نافع فقد سار في بلاد المغرب وفتح شمال أفريقيا ووصل إلى تونس الحالية، وعزم وصمم على أن يبني مدينة القيروان، حتى إذا أقبل عليها وصمم على بنائها أتى إليه أهل البلد وقالوا: يرحمك الله أيها القائد، هذه أرض مخيفة ومسبعة، كل الفاتحين يرجعون دونها، ابحث عن مكان آخر.

فيقول: والله لا بد من أن أبني مدينة هنا لتكون معقلاً للمسلمين مهما كلف الثمن ومهما عز المطلب.

ثم يقف على جانب الغابة ويقول: أيتها الوحوش! نحن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جئنا هنا لنشر الإسلام.

ومن يستطيع أن يخاطب الوحوش؟! وكيف تفهم الوحوش كلام عقبة بن نافع؟ يقول شاهد عيان -كرامة من الله عز وجل لهذا القائد المخلص-: والله لقد رأينا الوحوش تحمل أولادها من الغابة وتتركها لـ عقبة بن نافع.

ثم يسير عقبة بن نافع رضي الله عنه إلى بلاد المغرب ويغرز قوائم فرسه في المحيط الأطلسي ويقول: والله لو أعلم أن وراء هذا الماء بشراً لخضته إليهم على فرسي هذا.

هكذا قامت دولة الإسلام بالجهاد، وهكذا استطاع المسلمون بمعونة الله عز وجل أن يجعلوا تاريخهم مضيئاً مشرقاً في صفحات هذه الحياة، ثم يدور الفلك دورته ويعيد التاريخ سيرته، وينام المسلمون على اللهو والمتاع كما هو الحال اليوم، ولا يستيقظون إلا على الأشلاء والجماجم والدمار، تضيع بلاد الأندلس وتضيع الحضارات، وتضيع الأمم، وتصبح وصمة عار في تاريخ البشرية كلها، ويتقلص المسلمون في مواقع محدودة من بلادهم، وتتمزق هذه البلاد حتى تصبح ما يقرب من مائة دولة.

بعد ذلك تعود هذه الغربة العنيفة التي لا تساويها غربة أبداً في تاريخ البشرية، ولذلك فقد عادت الغربة التي حدثنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميع حذافيرها، وأصبحت هناك مظاهر نستطيع أن نقول من خلالها: إن هذه الغربة سوف تكون بداية النهاية إن لم ينتبه المسلمون لهذه الغربة.