أخبر الله تعالى بنص الآيات أنه سوف يكون بين الفريقين نداءات ثلاثة: الأول: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ}[الأعراف:٤٤]، انظر يا أخي! إلى هذا النداء بما فيه من السخرية! كان المجرمون من قبل يسخرون في الدنيا من المؤمنين، فإذا بالمعايير تنقلب، وإذا بالمقاييس تتغير؛ فيسخر المؤمنون في ذلك الوقت من أولئك الكافرين الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا، ماذا يقولون وهم في الجنة ما بين أنهارها وبساتينها وأشجارها يطلون على أهل النار؟ وإن كان المشوار طويلاً، لكن الله عز وجل بقدرته يوصل كلام هؤلاء إلى هؤلاء، وبغية هؤلاء إلى هؤلاء، فيقول أهل الجنة لأهل النار:{قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً}[لأعراف:٤٤]، وهم يعرفون أنهم وجدوا ما وعدهم ربهم، فيقول أهل النار: نعم، وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، لماذا؟ لأن الله عز وجل قد أخبرنا خبر صدق في هذه الدنيا؛ فلابد أن يكون حقيقة في الآخرة.
النداء الثاني: يأتي النداء الثاني من قوم بين الجنة والنار، وهم من على الأعراف، والأعراف كما يقول القرآن: مكان مرتفع، وهو في اللغة: المكان المرتفع أيضاً، وهؤلاء أقوام تخلصوا من النار لكن أعمالهم لم تؤهلهم بعد لدخول الجنة، فهم يقفون على الأعراف ينظرون إلى أهل الجنة وإلى أهل النار، ماذا يقول أهل الأعراف لأهل النار وأهل الجنة؟ قال تعالى:{وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ}[الأعراف:٤٨]، جماعة يتألمون بلهب نار جهنم -نعوذ بالله- وقد كانوا في الدنيا معروفين بسيماهم، إذا مر الواحد صفقت له الجماهير، وفتحت له الطرق، لكن لم تخلصهم هذه السلطة ولا هذه المكانة من عذاب الله عز وجل، ولذلك فإن أصحاب الأعراف يسخرون منهم: أين الهيمنة في الدنيا؟ وأين تلك الموائد؟ وأين تلك الجماهير التي تفدي بالدم وبالروح؟ أين هي الآن؟ لم لا تخلصكم من عذاب الله؟ ماذا يقول أصحاب الأعراف؟ {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ}[الأعراف:٤٨]، أين الجمع؟ أين المال العظيم؟ أين الكبرياء؟ أين العظمة؟ أين الحرس؟ أين الجيش؟ كل ذلك كما يقول الله عز وجل عنه:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}[الأنعام:٩٤]، كما خرجت من بطن أمك بدون لباس قدمت على الله مرة أخرى بدون لباس، ليس هناك ثوب ولا سراويل؛ بل حفاة عراة غرل كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم يلتفتون إلى أصحاب الجنة فيقولون لأهل النار وهم ينظرون إلى أهل الجنة:{أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمْ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ}[الأعراف:٤٩]، كنتم في الدنيا تقولون: إنهم متطرفون، ومنحرفون، وضالون، وكنتم تودعونهم السجون، وتسلطون عليهم كل وسائل العذاب والدمار، وتضلونهم في الدنيا، انظروا إليهم الآن في الجنة:(أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمْ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ)، كنتم في الدنيا تقولون: هؤلاء لا يستحقون الرحمة، قال لهم الله عز وجل:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}[الأعراف:٤٩].
إذاً: تغيرت المعايير، وأصبح الرجل الضعيف الذي كان في الدنيا مدفوعاً بالأبواب، نجده في ذلك اليوم قد أصبح رجلاً عظيماً عملاقاً، أصبح ينظر ويطل على أهل النار ويسخر منهم ينظر إلى أولئك الطغاة والمتكبرين والفسقة والعتاة، فيجدهم يتقلبون في نار جهنم ويلاقون الحسرة.
النداء الثالث: ويأتي بعد ذلك من أهل النار، وهو المرحلة الأخيرة، فأهل النار وهم في أشد العذاب -نسأل الله لنا ولكم العافية وللمسلمين- لا يجدون سلطة ولا مكانة، ولا يفكرون في كراسيهم ولا مراكزهم ولا سلطانهم ولا أموالهم ولا قصورهم، وإنما يفكرون فقط في أحد شيئين: إما في شربة من الماء يسدون بها العطش الشديد، وإما في أي شيء من أشياء هذا النعيم الذي يتمتع به أهل الجنة، ولذلك يمدون أكف الذل والمهانة إلى أهل الجنة:{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ}[الأعراف:٥٠]، لكن هل تظنون أن أهل الجنة الذين كانوا يعيشون معذبين تحت مطارق هؤلاء من أهل النار أنهم سيعطونهم شيئاً من الماء أو مما رزقهم الله؟ لا، لقد استهلكوا كل حسناتهم ونعيمهم، وعجلت لهم في الدنيا؛ فأصبحوا الآن يقاسون كل أنواع العذاب، ولذلك يرد عليهم أهل الجنة بقولهم:{إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا}[الأعراف:٥٠ - ٥١].
هكذا تصور لنا هذه الآيات في سورة الأعراف هذا الموقف العجيب، أمم في الدنيا تسير وراء أمم على غير بصيرة؛ فتجتمع جميعاً، وتكون كلها جثياً لنار جهنم، وأمم يخلصها الله عز وجل لا بعقليات كثيرة، وإنما بتوفيق من الله سبحانه وتعالى، فإذا بها تصبح في القمة في ذلك الوقت، وأمم في الدنيا كانت لها هيمنة ومكانة وسلطة وحشم وحرس، فإذا بها اليوم تقول لأصحاب الجنة وللفقراء المسلمين:(أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ)، فيردون عليهم بالرفض:(إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ).
إذاً: أيها الإخوان! هذا موقف ومشهد عظيم من مشاهد يوم القيامة، لا يجوز لنا أن نغفل عنه أو أن نتغافله؛ لأن مثل هذا الموقف نحتاج إليه دائماً، ونحن اليوم أحوج ما نكون إليه ونحن نعيش في أمة قد علا فيها الطغيان وانتفخ وعظم أمره، ونرى كثيراًَ من المؤمنين -الذين هم من خير عباد الله- يعيشون معذبين تحت مطارق الكافرين، ولكن المؤمن عليه أن يثبت في طريقه، ويصبر ويحتسب.