قوله تعالى:(ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً)
لكن المشكلة أكبر من ذلك، حين يجني إنسان سيئة ويبرئ نفسه منها، ويلصقها بإنسان آخر:{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}[النساء:١١٢].
الخطيئة: هي التي يفعلها الإنسان وهو يشك بأنها خطيئة، لكن الإثم هو الذي يفعله الإنسان ويعرف أنه إثم، وسواء كانت خطيئة يشك الإنسان في حرمتها أو إثماً يجزم بحرمته فإن عليه أن يعترف، وليس معنى ذلك أن كل من فعل ذنباً عليه أن يقدم نفسه للمحكمة أو للسلطة، فإن باب التوبة مفتوح، فإذا تاب الإنسان بينه وبين ربه سبحانه وتعالى فإن الله تعالى يقول:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الزمر:٥٣]، بشرط:{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}[الزمر:٥٤ - ٥٥].
فالذنوب على نوعين: هناك ذنوب بين الإنسان وبين ربه سبحانه وتعالى، وهذا يكفي في التوبة أن يتوب الإنسان بينه وبين ربه سبحانه وتعالى، دون أن يكشف نفسه أمام الناس، بل إنه إذا وصل إلى درجة المجاهرة بالذنب فإن الذنب يكون عظيماً، ولذلك جاء في الحديث:(كل أمتي معافى إلا المجاهرين إلا المجاهرون) على روايتين.
فالذنب إذا كان بينك وبين ربك سبحانه وتعالى فبادر بالتوبة، وثق بأن الله تعالى قد أوجب التوبة على نفسه إذا صدقت في التوبة، فقال:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ}[النساء:١٧]، و (عَلَى) هنا تدل على الوجوب، فالله تعالى أوجبها على نفسه ولم يوجبها عليه أحد غيره، بشرط أن تستوفي هذه التوبة شروطها من الإقلاع عن الذنب والعزم على أن لا يعود، وأن يندم على ما مضى، لكن هناك ذنب ومثل هذا الذنب قصة ماعز رضي الله عنه، فـ ماعز رضي الله عنه من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن خيار الصحابة، زنا ذات يوم فاعترف بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتمنى أن لا يعترف ماعز، وإنما يتوب بينه وبين ربه، فكان يعرض عنه وماعز يتابعه ويقول: يا رسول الله! زنيت زنيت أربع مرات، ويسأله الرسول صلى الله عليه وسلم لعله أن يتراجع:(لعلك قبلت، لعلك غمزت، ماذا فعلت؟ فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: أبك جنون؟)، كل ذلك من أجل أن ينصرف ماعز.
إذاً: التوبة بين الإنسان وبين ربه، لا حاجة إلى أن تقام عليه الحدود إذا كان هذا الذنب لا يمس أحداً من الناس، لكن حينما يكون الذنب بين الإنسان والإنسان فهو من ديوان لا يترك الله عز وجل منه شيئاً يوم القيامة، وهنا لا بد في التوبة من رد المظالم إلى أصحابها قبل أن ترد يوم القيامة إن كان هناك مال يرد، وإن كان هناك عرض يستحل إلى غير ذلك.
لكن إذا فعل هذا الذنب وزيادة على إصراره على هذا الذنب ألصقه بغيره، سرق وقال: فلان سرق، زنا نعوذ بالله، وقال: فلان زنا، قتل وقال: فلان قتل، فهذا هو أعظم الذنوب عند الله عز وجل، ولذلك أخرها الله تعالى وقال:{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا}[النساء:١١٢]، يتهم به إنساناً ليس هو فاعل الذنب، (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)، (بهتاناً) وهو إلصاقه بغيره، (وإثماً) خطأ عظيماً ومبيناً.
إذاً: لا بد لفاعل الذنب في مثل هذه الحال أن يعترف لاسيما إذا كان سيؤخذ البريء بدلاً منه، وأشد من ذلك حينما تقوم بينات وشهادات زور تبرئ المجرم لتلصق الجريمة بإنسان آخر:(وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا).