[حماية الفضيلة ومحاربة الرذيلة بتشريع حكم الملاعنة]
يقول الله تعالى بعد ذلك: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ} [النور:٦] عندما نزلت الآية السابقة شق ذلك على بعض المسلمين وخصوصاً الزوج، لو أن واحداً ابتلي بزوجة زانية؛ كأن وجد عند زوجته رجلاً في بيته وفي فراشه، ماذا يعمل؟ هل يصبر حتى يأتي بأربعة شهداء؟! ومن يستطيع ذلك؟ لأن الغيرة في قلب المؤمن لا تمهله حتى يأتي بأربعة شهداء.
لما نزلت الآية السابقة جاء هلال بن أمية يخبر أنه وجد عند امرأته رجلاً، فقال له رسول الله: البينة أو حد في ظهرك! ثم نزلت الآية.
من رحمة الله عز وجل أنه استثنى الزوج مع زوجته، لا حاجة إلى أربعة شهداء وإنما يأتي أمر آخر يسمى حد اللعان أو الملاعنة.
حد الملاعنة هذا استثني من حد القذف، فحد القذف حكم ثابت إلى يوم القيامة، ولا يستثنى منه إلا من وجد عند زوجته رجلاً أو اتهم زوجته بالفاحشة نعوذ بالله، الله تعالى سامحه عن الشهود الأربعة، وطالبه بأربعة أيمان بدل الأربعة الشهود، فلا بد أن يشهد أربع مرات أمام القاضي ويسميها: والله إنها لزانية، والله إنها لزانية، والله إنها لزانية، والله إنها لزانية أربع مرات، ثم يقول في الخامسة: لعنة الله علي إن كنت كاذباً فيما رميتها به.
إذا قال هذا الكلام فلا حاجة إلى أربعة شهود؛ لأن الله تعالى خفف على الزوج في قذف زوجته، خصوصاً إذا كان هناك ولد وهو يشك هل هذا الولد له أو ليس له؟ فهو يكره أن يدخل ولداً في بيته وفي أسرته ومع أولاده وليس من أولاده، وإن كان الحكم الشرعي (الولد للفراش)، لكن هو لا يريد أن يدخل هذا الولد في بيته ولا في أسرته.
والمرأة إذا سكتت فإنه يقام عليها الحد، ولكن لها مخرج من الحد أن تشهد أربع مرات: أشهد بالله إنه لكاذب فيما رماني به من الزنا، أشهد بالله إنه لكاذب، أشهد بالله إنه لكاذب، أشهد بالله إنه لكاذب، ثم تقول في الخامسة: غضب الله علي إن كان صادقاً.
هذا يسمى في حكم الشرع باللعان أو بالملاعنة.
إذاً: خفف الله تعالى عن هذه الأمة فاستثنى الأزواج مع زوجاتهم في هذا الحكم ويسمى حكم الملاعنة.
يقول الله تعالى عنه: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) أي: يقذفون زوجاتهم بالزنا.
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ) (أنفسهم) هنا بالرفع بدل من شهداء لأن (إلا) هنا ملغاة تقدم عليها النفي.
(فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ) أي: يمين الزوج ضد زوجته يكفي بدل الشهادة.
وسماها الله تعالى شهادة مع أنها يمين؛ لأنها حلت محل الشهادة، ومحل أربعة شهود يشهدون بذلك.
(أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) أي: يقول: أشهد بالله إنها فعلت كذا وإني صادق فيما رميتها به من الزنا.
يقول الله تعالى: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:٧] معطوف على ما قبله وهو قوله: (أربع) (والخامسة) وهي مرفوعة، أي: ويشهد الخامسة ويقول: لعنة الله علي إن كنت كاذباً، أو (والخامسةُ) هنا على الاستئناف.
قوله: (وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) أي: فيما رماها به من الزنا.
إذا قال هذا الكلام سلم من الحد، ويفرق بينه وبين هذه الزوجة، وله أن ينفي الولد؛ لأنه رأى رجلاً يزني بها في يوم من الأيام، أو أنها حملت بحمل يتبرأ منه بهذه الأيمان الأربعة التي أشهد الله تعالى عليها، ودعا على نفسه باللعنة في الخامسة إن كان كاذباً، ويقام عليها الحد إلا إذا شهدت هي أربع شهادات مثله كما سيأتينا.
قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:٨] (ويدرأ) أي: يدفع ويزيل، والمراد بالعذاب هنا حد الزنا، أي: ويدفع الله عنها حد الزنا بشهادتها أربع مرات بأن تقول: أشهد بالله إنه لكاذب فيما رماني به من الزنا، أربع مرات.
قوله تعالى: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ) أي: يدفع عن هذه المرأة المرمية بالزنا الرجم؛ لأنها محصنة.
(أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ) أي: تشهد أربع شهادات حتى يدفع عنها الحد، وإلا فإن الحد لا بد من أن يقام عليها.
(أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) تقول: أشهد بالله إنه لكاذب فيما رماني به من الزنا، ثم تكمل الخامسة.
قال الله تعالى: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:٩] (والخامسة) هنا منصوبة معطوفة على (أربع شهادات).
(وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا) والغضب أشد من اللعنة، لماذا كان هنا الغضب وكانت هناك اللعنة؛ لأن زنا المرأة أخطر من زنا الرجل؛ ولأن الحد الذي سوف يدفع عن المرأة أشد من الحد الذي سيندفع عن الرجل؛ ولذلك جاءت اللعنة وهي الطرد من رحمة الله بالنسبة للرجل، وجاء أشد من ذلك وهو الغضب إن كانت كاذبة فيما شهدت به.
(وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) إذا قالت هذا الكلام يفرق بينهما، ويجب على القاضي في مثل هذه الحالة أن يخوفهما بالله، ويبين لهما أن عذاب الدنيا أسهل من عذاب الآخرة، ويقول للزوج: لا حاجة إلى أن تلاعنها يا أخي؛ لأنك لو لاعنتها وأنت كاذب سوف تحل عليك لعنة الله.
وكذلك المرأة لو كانت كاذبة فسوف يحل عليها الغضب.
يقول الله تبارك وتعالى بعد ذلك في ختام آيات الملاعنة: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور:١٠].
أي: أن الله تعالى برحمته هو الذي شرع حد اللعان؛ ليكون تخفيفاً على الأزواج.
(لولا) هنا حرف امتناع لوجود (فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) وجوابه محذوف، أي: لعاقبكم ولم يسامحكم أيها الأزواج ويعطكم هذه المسامحة التي لم يعطها عامة الناس.