[قصد وجه الله تعالى والدار الآخرة بالعمل]
قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ} [الإسراء:١٩] أي عمل لا يراد به وجه الله والدار الآخرة لا ينفع صاحبه، ولذلك الله تعالى يقول عن قوم كفار عملوا خيراً: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:٣٩]، تسير في الصحراء في شدة الحر فترى كأن أمامك ماءً، وينخدع ذلك العطشان بذلك الماء ويركض، كلما قرب منه ابتعد السراب الذي على وجه الأرض، حتى يهلك هذا الإنسان وهو يتبع ذلك السراب: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور:٤٠] وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:١٨] أين ذهب هذا العمل؟ كأنه رماد خفيف الحجم والوزن هبت عليه ريح شديدة فطار في الهواء؛ لأن هذا العمل رماد وليس بنار، ولأن هذا العمل صورة وليس بحقيقة.
إذاً لا بد من إرادة الآخرة، والمنافقون لا يريدون الآخرة، وإنما يعملون العمل تقية حتى يعيشوا في المجتمع مع الناس، ولذلك الله تعالى لا يتقبل شيئاً من أعمالهم، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:٢٣] العلمانيون -عليهم جميعاً لعنة الله إلى يوم القيامة- لا يعملون للآخرة، وإذا عملوا فإنما يعملون أموراً هم يستحسنونها فقط، فيقولون: هذا الدين عبادة فتذهب إلى المسجد، وتحج إذا جاء موسم الحج، وتتصدق على الفقراء من باب الإنسانية، وتصوم إذا جاء رمضان، لكن ما الذي يدخل الدين في أنظمتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاق؟! كل ما شئت، واشرب ما شئت، وافعل ما شئت، ولا تتقيد بهذا الدين في أي نظام؛ لأن هذا الدين للعبادة.
ويقولون: (ما لله لله وما لقيصر لقيصر) ولكن الله عز وجل يقول: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة:٢٨٤] ولذلك أعمالهم كسراب بقيعة.
وهكذا سائر الملل والفرق التي تعبد الله سبحانه وتعالى بدون إرادة الآخرة، يتصدق فيقول: إنسانية وهكذا يؤوِّل كل عبادة من العبادات لمصلحة الدنيا لا لمصلحته هو في الآخرة.
العمل الصالح لا يصح إلا بإرادة ونية صادقة لا يريد من ورائها جزاءً ولا شكوراً من الناس، وإنما من الله سبحانه وتعالى، لا يبغي بها ثناءً من البشر، وإنما من الله عز وجل، إرادة جازمة للآخرة، هذه الإرادة لما كانت جازمة وثابتة في أعماق الفؤاد لا يستطيع أحد أن يطاردها ولو بقوة الحديد والنار، ولذلك تجد أنه كم بذل العدو في سبيل مطاردة هذا الدين فلم يفلح؛ لأنه وجد أمماً كالجبال لا يتحولون عن مواقعهم، قال الله عن مكرهم: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:٤٦] لكنهم وجدوا أقواماً عرفوا الله عز وجل حق المعرفة، وآمنوا به حق الإيمان، فما استطاع العدو أن ينال منهم منالاً واحداً، ولا أن يكسب منهم فرداً أبداً.
ولقد كسب العدو أقواماً إيمانهم بسيط، إيمان تقليدي وراثي، ورثه هذا الإنسان من المجتمع الذي يعيش فيه، فأصبح هذا الإيمان غير ثابتٍ في أعماق القلب، وليست له جذور، فأدى ذلك إلى أن يتأثر هذا الإيمان بأول هزة، وكم نسمع أن فلاناً من الناس اهتدى واستقام، ثم نفاجأ بعد مدة وجيزة أنه استقام ورجع واستقام ورجع، السر في ذلك أن هذا الإيمان لم يتعمق في القلب، ولو تعمق في القلب ووصل إلى سويداء القلب ما كان أحد يستطيع أن يؤثر على هذا الإيمان، وسوف أضرب بعض الأمثلة: المثال الأول: أبونا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وصل إلى درجة من الإيمان لم يصل إليها إنسان قط إلا ما شاء ربك، يلقى في النار فيأتيه ملك من ملائكة الله فيقول: ألك حاجة؟ فيقول: أما إليك فلا، وهو في طريقه يهوي إلى نار تحرق الطير في السماء، يقول: أما إليك فلا.
ما خاف من النار؛ لأنه يعرف أن النار بيد الله سبحانه وتعالى، يؤمر بترك ولده الصغير الوحيد الطفل هو وأمه ليضعهما في مكة بواد غير ذي زرع، فيستجيب لأمر الله، وما قال: تأكل الطفل السباع أو تأكل أمه.
وإن كان الاحتياط مطلوب في الأصل، لكن استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى.
ويؤمر بذبح ولده وقد بلغ معه سن السعي ثم يستجيب لأمر الله، ولم يقل: هذا ولدي الوحيد، ولقد بلغ سن السعي وأنا بحاجه إليه.
فيعلم الله صدق إيمانه فيفديه بذبح عظيم، ما هو السر في ذلك؟ هل إبراهيم عليه السلام ولد في بيئة متدينة، وعاش عيشة متدينة، وجد الأب يصلي والأم تصلي وقلدهما، أم أن إبراهيم عليه السلام ولد في بيئة كافرة كل من فيها كافر، ليس فيها رجل واحد مؤمن إلا إبراهيم عليه السلام؟ ولذلك الله تعالى يقول: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:١٢٠] هو أمة والعالم كله أمة، وهكذا يكون الرجل المؤمن أمة في عالم يخالفه في المنهج والعقيدة؟! إبراهيم عليه الصلاة السلام ولد في بيئة كافرة، وأقرب الناس إليه وأكثر الناس عداوة له أبوه، قال الله تعالى: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:٤٦] لكن السر في ذلك أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام بحث في هذا الكون لينظر من يستحق أن يعبد، فنظر مرة إلى الكوكب فقال: {هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:٧٦ - ٧٩]، هنا يكون الإيمان القوي، ولذلك الله تعالى يقول لنا وللناس كافة: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف:١٨٥] ويقول تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران:١٩٠ - ١٩١].
مثل آخر: السحرة الذين جاء بهم فرعون ليقابلوا آية الله التي جاء بها موسى عليه الصلاة والسلام، سحرة ولدوا في بيئة كافرة، بيئة سحر، ومنذ طفولتهم وهم يتدربون على السحر، ويعيشون مدة طويلة من الزمن حتى كبر سنهم وهم لا يعرفون إلا السحر والكفر بالله سبحانه وتعالى، لكن هذه آية رأوها بأعينهم واستطاعت أن تمحو وتزيل كل آثار التربية السيئة التي ألفوها مدى الحياة، الذي حدث أن موسى عليه الصلاة والسلام ألقى العصا وهي آية الله العظمى لموسى عليه الصلاة والسلام، فرأوا أن مثل هذا لا يكون سحراً، وإنما هي آية من آيات الله عز وجل؛ لأنها فوق مستوى السحر، فإنهم قد فهموا السحر وهضموه هضماً كاملاً، فلما رأوا الآية تغير كل ما في عقولهم من التفكير السابق والتربية التي حقنت في دمائهم منذ الطفولة وقبل الطفولة وبعد الطفولة إلى تلك اللحظة، والفطرة موجودة في قلب كل واحد من الناس، لكن ما الذي حدث؟! كانوا قبل لحظات يقولون: (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:٤٤] فماذا قالوا بعد ذلك لما رأوا الآية وماذا قال فرعون؟ خروا ساجدين لله تعالى، وهي السجدة الأولى والأخيرة بالنسبة لحياتهم العبادية، تصور -يا أخي- هذا التحول العجيب الذي يحصل! ثم ليس العجيب في أن يسجدوا لله عز وجل؛ لأن السجدة ما تكلف الإنسان جهداً كبيراً، العجيب أن أكبر طاغية في الأرض يحمل السكاكين والجلادين ويقسم لهم بأنه سوف يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ويصلبهم في جذوع النخل، فماذا تتصور يا أخي! ساحر ما مر على إيمانه إلا دقائق، وكل حياته في الكفر، فماذا تتصور والسكاكين أمامه والجلادون والسيوف والحراب مجهزة لتقطيعه؟! أول ما يتبادر للذهن أن هذا سيرجع؛ لأن التربية القديمة قد غلبت عليه، ولكن ما الذي حدث؟!! الذي حدث أنهم استهانوا بكل الحياة وما فيها؛ لأنهم رأوا بأعينهم آية من آيات الله، آية واحدة!! كم نرى نحن من آيات! وكم مضى علينا ونحن نعيش في ظل هذا الدين! وكم تربينا في بيئات مسلمة! لكن هؤلاء ما مرت عليهم إلا دقائق، تصوروا أنه لما قال لهم: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:٧١] ماذا قالوا؟ قال تعالى: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:٧٢] (ما) اسم موصول تفيد العموم، كل ما تريده اعمله، لكنها للاستهانة التي لغير العاقل، أي: نحن نستهين بك وبتهديدك، وبالجلادين الذين أشرعوا السيوف لتقطيع الأيدي والأرجل، وأقبلنا على الله عز وجل، ما تستطيع أن تؤثر على هذا الإيمان.
ثم تجد الاستهانة بالدنيا {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:٧٢] أي: اقض ما شئت.
ثم قالوا: (إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:٧٢] (إنما) للحصر، أي: الأمر الذي تريده منا بسيط، اقتلنا، وقطع رءوس مائة ألف ساحر، وقطع أيديهم وأرجلهم حتى يموتوا، لكن الإيمان لا تستطيع أن تصل إليه، فهم استهانوا وقالوا: {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:٧٢].
وقالوا: {إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا ل