هناك طغيان في العبادة، والمراد به: تجاوز الحد، أي: كونوا وسطاً؛ ولا تتعدوا هذه الحدود ولو كان ذلك في أمر العبادة؛ ولذلك فكل أوامر الإسلام مضبوطة ببداية ونهاية، وبحدود وحواجز؛ لئلا يفكر أحد من الناس أن يزيد فيها أو أن ينقص، فإنّ من زاد في شرع الله فإجرامه أكبر مِن إجرام مَن نقص منه؛ لأن من نقص من شرع الله فهو عاصٍ، وأما من زاد فيه فإنه يضع نفسه في مقام الربوبية التي لا تجوز لأحد إلا لله سبحانه وتعالى وحده، وهذا هو الطغيان، ولهذا فإن أوامر الإسلام محدودة: خمس صلوات لا نزيد عليها كفرائض، وصيام رمضان لا نزيد عليه، حتى إنّ من صام اليوم الذي يشك فيه قبل رمضان فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فلا نزيد يوماً قبله ونعتبره من رمضان، ولو كان ذلك اليوم يوم شك على سبيل الاحتياط فيه، ولا يجوز أن نصوم يوم العيد؛ لأنه يزيد في رمضان، وهكذا كل العبادات تجدها قد رُسم لها طريق بداية ونهاية وحدود، بحيث لا يستطيع أحد من الناس أن يزيد فيها أو أن ينقص، ولذا قال الله تعالى:(ولا تطغوا) أي: لا تتجاوزوا الحدود في هذا الأمر، فإن الإفراط أخطر على حياة المسلم من التفريط.
جاء ثلاثة نفر إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم فسألوا عن عمله، فذكر لهم عمله، فكأنهم تقالوا هذا العمل، فقال أحدهم:(أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد -أي: يصلي كل الليل- وقال الثاني: وأما أنا فأصوم النهار ولا أفطر، وقال الثالث: وأنا لا أتزوج النساء، -أي: يريد أن يتبتل وينقطع عن العبادة- فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بقولهم غضب غضباً لم يغضب مثله، وقال: أما إني أتقاكم لله وأعلمكم بالله، وإني أصلي وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
إذاً: فالإفراط وتجاوز الحد والطغيان في العبادة أمر لا يقل خطراً عن أمر التقصير في العبادة، بل يزيد خطره على ذلك.
وهنا ننبه على أمر يقع فيه كثير من الناس وهو: أنّ كثيراً من شباب المسلمين -الآن- حينما يتجهون إلى الله عز وجل فإنهم يوصفون بالتطرف، أو يوصفون بالتشدد، وما هذا الأمر بتشدد في الحقيقة، إنما هو دين، لكن لما غفل الناس عن هذا الدين مدة طويلة من الزمن، وهدى الله عز وجل هذه الشبيبة المسلمة؛ ظن كثير من الناس أن هذا تجاوز وتعدٍّ للحدود، فصاروا يسمونه تطرفاً، ومرة أخرى يسمونه وسواساً، وحيناً يسمونه شدة في الدين إلى آخر ذلك، حتى إنهم يسمونه في بعض الأحيان رجعية وتخلفاً، وهذا حقيقته الطعن في الدين، وهذا هو ما يحدث بالنسبة لمن يسنون الشرائع الأرضية، والقوانين البشرية، فإنهم يقولون: هذا الدين لا يصلح لهذه الحياة، إذاً لابد أن يأتوا بقوانين وآراء الرجال، ويضلون الأمة عن الطريق المستقيم {وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[هود:١١٢].