قوله:(وأدنى صديقه وأقصى أباه) عجيب أن يحدث مثل هذا! كم من هؤلاء الشباب الذين لم يعرفوا بعد قدر الأبوة وفضلها، والذين لم يصيروا بعد آباءً لأنهم مازالوا أبناءً، والذين لا يعترفون بهذا الحق لذويه! ومن يقدم صديقه على أبيه؟! ولذلك تجد أن طائفة من هؤلاء الشباب الذين ابتلوا بهذه الفتنة يندر أن تجده مع أبيه، وإنما دائماً وأبداً مع صديقه، ولربما يكون ذلك الصديق منحرفاً، وهذه تعتبر بلية كبرى، الأب المربي العطوف صاحب النعمة قبل الحمل وبعد الحمل، وقبل الولادة وبعد الولادة هل نقدم عليه الصديق؟! الصديق له حق، ولكنه لا يأتي إلا بعد درجة بعيدة من حقوق الوالدين، أما أن يدني صديقه ويجفو أباه ليصبح الصديق في نظره أعظم وأعلى درجة من ذلك الأب فهذه تعتبر من بداية العقوبة ومن البلايا والفتن.
وبر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وبر الوالدين دين وقرض يقدمه ذلك الولد ليجني ثماره حينما يكون أباً، إن حسناً فحسناً وإن قبيحاً فقبيحاً، يقول عليه الصلاة والسلام:(بروا بآبائكم تبركم أبناؤكم) ولذلك نشاهد ذلك في الواقع، فالأبناء البررة الذين أدوا حقوق الوالدين يمن الله عليهم بأولاد بررة صالحين يؤدون حقهم.
ولذلك فإني أقول: لا بد أن نرعى هذا الحق من حقوق الله عز وجل وهو بر الوالدين وصلة الرحم، فالله تعالى يقول:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}[محمد:٢٢ - ٢٣] ونقرأ في الحديث قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة فسدت عليهم طريق الخروج من باب الغار ولم يستطيعوا الخروج، فتوسلوا إلى الله عز وجل بصالح أعمالهم، لم يتوسلوا بالمخلوق؛ لأن التوسل بالمخلوق شرعاً لا يجوز، والتوسل بالأعمال الصالحة جائز ومطلوب، فهذا أحدهم يقول: (إنه كان لي والدان، وإنه نأى بي المرعى ذات يوم فجئت بغبوقهما فوجدتهما نائمين، فأمسكت بالقدح الذي فيه اللبن ووقفت على رأسيهما طوال الليل ولم أغبق قبلهما أهلي ولم أوقظهما حتى استيقظا قرب الفجر فناولتهما اللبن فشربا، اللهم! إن كنت فعلت ذلك ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه.
فانفرجت الصخرة قليلاً.
فكما أن الأعمال الصالحة تنجي الإنسان من عذاب الله عز وجل يوم القيامة فهي تخلص الناس من مخاوف الحياة الدنيا ومخاطرها، ولذلك يقول الله عز وجل:{وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[الزمر:٦١] وكم من الناس من وقع في مشكلة فخلصه الله عز وجل بسبب طاعة، أما إذا أدنى الرجل صديقه وجفا أباه فإن ذلك يكون سبباً من أسباب العقوبة، نعوذ بالله.