[ذكرى عاشوراء، وبيان الأحداث التي وقعت فيه]
هناك أيضاً ذكرى ثالثة وخاطرة ثالثة نمر بها أيضاً مر الكرام، ألا وهي ذكرى عاشوراء، الذي صامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر المسلمين بصيامه، وقال: (خالفوا اليهود، لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع، صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده).
ولهذا اليوم ذكرى عطرة لا في تاريخ المسلمين فحسب بل في تاريخ الإنسانية؛ لأنه يوم نجى الله فيه موسى ومن معه من المؤمنين، وأهلك الله فيه فرعون ومن معه من الكافرين المتمردين؛ وذلك حينما جاء ذلكم الطاغية الذي تحدى كل القيم وتحدى كل المعتقدات، وقال للناس: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨]، وقال لهم: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤]، وأنكر ألوهية الخالق سبحانه وتعالى، أنكرها بلسانه، لكنه آمن بها في حقيقته وفي قرارة قلبه، وقد كشف الله تعالى هذا الإيمان، وكشف هذا السر فقال سبحانه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:١٤] لماذا جحدوا بها؟ {ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:١٤]، أي: جحدوا بها ظلماً وعلواً واستيقنتها أنفسهم.
وقال الله عز وجل عنه على لسان موسى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:١٠٢].
ولذلك نجد أن هذا الطاغية إنما أنكر الخالق من أجل أن يستعبد الأمة، وهكذا في كل فترة من فترات التاريخ، أي فرد يريد أن يستذل أمة أو يستعبد شعباً فلابد أن يحول بينه وبين الإيمان بالخالق سبحانه وتعالى، ابتداءً من الفرس في معتقدهم الأول، وإلى فرعون عليه لعنة الله حينما أنكر الخالق، ومروراً بالشيوعية التي تكتسح كثيراً من العالم اليوم، والتي لم تجد سبيلاً إلى السيطرة على العالم إلا أن تنكر الخالق سبحانه وتعالى.
قال عز وجل: {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:٣٤]، فيجيئون بها وفق منهج اقتصادي في الظاهر، ولكنه في الحقيقة ينتهي إلى إنكار الخالق سبحانه وتعالى، وإنكار القيم، وإنكار الرسل والكتب السماوية والحياة الآخرة، وإنكار كل المبادئ؛ ليقولوا لهذا الإنسان: إنه حيوان ينتهي من حيث يبتدي! ولذلك يزعمون أن هذا الإنسان يوجد نتيجة التفاعل الكيماوي والحيوي، كما تقول الشيوعية، أي: أنه يتعفن في هذا الكون كما يتعفن الطعام، فتولد منه هذه الدودة، ثم هذه الدودة تطورت في نظر الشيوعية حتى صارت جسداً ثم صارت إنساناً!! هذه هي نظرية التفاعل الكيماوي والحيوي في نظر الشيوعية، وهذه بداية الإنسان! وأما نهاية الإنسان في نظر الشيوعية فيجب أن يباد كما تباد هذه الحشرات؛ لأنه تولد من التعفن في نظرهم كما تتولد الحشرات.
ولذلك يا إخوان! لو نظرنا نظرة فاحصة إلى ما يفعله الشيوعيون في أفغانستان وفي غيرها -نسأل الله السلامة، ونسأل الله أن يعز الأمة الإسلامية- لوجدنا أن النهاية تطابق البداية بالنسبة لنظرة الشيوعية.
يباد إخواننا المسلمون هناك بالبلاد الأفغانية كما تباد الحشرات، والله لقد زرت مستشفيات لو كان الذين فيها كلاب لوجب أن نعطف عليهم، وقد قطعت أيديهم، وقطعت أرجلهم بسبب القنابل والمواد السامة، وشوهت وجوههم!! إلى غير ذلك.
مستشفيات يحصى من فيها بعشرات الآلاف بل بمئات الآلاف من البشر! إضافة إلى من يقتل ويباد هناك، ونحن في غفلة نسمع أخبار السلفادور وأخبار العالم كله، ولا نتابع أخبار إخواننا الأفغان أبداً إلا ما شاء الله، وإذا تابعنا نجده في زاوية مهجورة من صحفنا لا تتعدى ثلاثة سنتيمترات في ثلاثة.
فإخواننا هناك يبادون على أيدي الشيوعية؛ لأن الشيوعية تقول: إن الإنسان ولد نتيجة التعفن، فيجب أن نعامله كما تعامل الحشرات، ولذا يبيدونه بالمواد السامة.
ولذلك فإن فرعون عليه لعنة الله ما استعبد بني إسرائيل وما أراد أن يستعبد المصريين إلا من هذا المنطلق، حيث أنكر الخالق، والشيوعية وهي تريد أن تستولي على هذا العالم لا تستطيع أن تستولي على هذا العالم كما تتصور إلا إذا أنكرت الخالق؛ لأن العالم الذي لا ينكر الخالق سيقف كما يقف الأفغان في أيامنا الحاضرة الذين يقاتلون الروس ولو بالحجارة، في الوقت الذي غفل عنهم إخوانهم المسلمون، ولم يمدوهم حتى بالمال.
فالشيوعيون لا يريدون الإيمان بالخالق؛ حتى لا يتسابق الناس إلى الشهادة؛ وإنما يريدون أن يقول الإنسان كما قال الدهري الأول: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:٢٤].
المهم أن فرعون ذلكم الطاغية ولد في بيته طفل تولى الله عز وجل تربيته على عينه، كما قال: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:٣٩]، تولاه الله عز وجل، وتحدى به فرعون، فإذا كان يقتل الأطفال من بني إسرائيل فإن هذا الطفل سيتربى في بيت فرعون، كما قال سبحانه: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:٨].
وانظروا أيها الإخوان! إلى ألطاف الله عز وجل، وانظروا إلى تعطل نواميس الحياة إذا أراد الله عز وجل أن تتعطل يقتل الأطفال من بني إسرائيل، لكن موسى يعيش في بيت فرعون ولا يقتله! ثم بعد ذلك يكون سبباً في هلاكه، وذلك حينما أمره الله عز وجل في يوم عاشوراء من شهر الله المحرم أن يخرج ببني إسرائيل صوب البحر، فلحقه فرعون بجنوده، حتى قيل: إن بني إسرائيل كانوا يحصون في ذلك الوقت بأكثر من ستمائة ألف، أي: الذين عبروا البحر الأحمر بهذه المعجزة الخارقة للعادة.
وكان بنو إسرائيل إيمانهم ضعيفاً، فلما رأوا موسى يريد أن يتجه بهم إلى البحر والبحر أمامهم وفرعون من خلفهم قالوا لموسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:٦١]، وهذه فطرة بشرية لا يلامون عليها؛ لكن الرجل المؤمن موسى عليه السلام قال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:٦٢].
هكذا الإيمان إذا حل في القلوب؛ حيث تهون كل الدنيا في وجه الرجل المؤمن؛ ولذا قال: (كَلَّا) و (كلا) للردع، (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ).
ولما علم الله عز وجل إيمانه أمره أن يضرب البحر ضربة واحدة بعصا صغيرة، فتحول هذا البحر إلى اثنتي عشرة طريق، كل طريق يعبر منها سبط من أسباط بني إسرائيل إنها آية عجيبة! فمن كان يظن أن البحر سيتجمد ليعبر الناس عليه بالأقدام؟! إنها قدرة الله عز وجل.
فيعبر المؤمنون مع موسى عليه السلام، ثم يدخل فرعون وجنوده من ورائهم، ثم يأمر الله عز وجل البحر أن يطبق على الأقباط مع فرعون ويغرقهم أجمعين، ثم يجعل الله عز وجل فتنة فرعون آية باقية إلى يوم القيامة، ولعل الذين يذهبون إلى مصر ويدخلون المتحف الوطني يرون هذه الآية ما زالت باقية، يقول الله عز وجل: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:٩٢].
فمن أراد أن يتكبر، أو ينكر الخالق، أو يشك في الخالق سبحانه وتعالى، أو يطغى على خلق الله، أو يتجبر في هذه الأرض أو يظلم؛ فإن عليه أن ينظر إلى تلك الآية التي مضى عليها اليوم ما يزيد على خمسة آلاف سنة، وهي آية ما زالت باقية يمر بها السواح، ولكن كثيراً منهم لا يشعرون.