وهناك أمر آخر، وهو بطبيعته ردة فعل للسابق، فإذا سكت دعاة الحق تحرك دعاة الباطل، وربما يستحوذون على كل وسائل الأعلام في بلد ما ينام فيها العقلاء والمصلحون، فيتحدثون ملء أفواههم، ويملئون الدنيا صراخاً وعويلاً، ويملئون الساحة ويشغلون ما يسمى بالفراغ بدعوة باطلة يقصدون من ورائها إضعاف الحق وإرهاق المؤمنين، أو الفصل بين دولة إسلامية وبين المؤمنين فيها، أو بين دولة إسلامية وبين العلماء والمصلحين فيها، وهذا معروف في تاريخ البشرية من أوله إلى آخره، فحينا يتخلى العلماء والمصلحون عن الدولة لابد من أن تنهار، وهذه سنة الله تعالى في هذه الحياة؛ لأن العلماء هم مصابيح الظلام، وإذا كانوا كذلك لا تفسد الشعوب، وربما يخيم الظلام على بلد ما لا يتحرك فيها العلماء، ثم ينشط بعد ذلك دعاة الباطل، ثم يكون الأمر خطيراً.
فدعاة الضلال ينشطون على المنابر -وأقصد بالمنابر الوسائل الإعلامية في العالم الإسلامي- حينما نام العلماء ولم يستيقظ منهم إلا العدد القليل، حتى أصبح الحمل ثقيلاً والعبء شاقاً على هذا العدد القليل، فصار أولئك يستضعفونهم ويسبونهم من منطلق القوة أو من منطلق القيادة أو من منطلق المسئولية.
وهذا الذي يحدث خطير جداً، لكن أخطر من هذا أن يكون هؤلاء الدعاة يشغلون من الداخل بفعل كفعل المنافقين يوم طوق الأحزاب المدينة، وأخطر من ذلك كله أن يكونوا من أبناء جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، وأخطر من ذلك كله أن يدبجوا ويزخرفوا أقوالهم بآيات من كتاب الله وأحاديث من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الخطر الذي يخفي الرؤية الصحيحة حتى لا يكاد كثير من المسلمين أن يتبين الحق من الباطل ولذلك نقول: إن تواجد هؤلاء -وهم من أبناء جلدتنا لا شك- بطريقة كأنهم فيها مخلصون للدولة وللأمة وللدين، ولربما يستشهدون بآيات من كتاب الله ذلك هو الخطر، ويصبح الأمر ملتبساً والواقع مختلطاً حابله بنابله، ولا يتميز ذلك إلا حينما يتميز الحق من الباطل.
ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم حذر من مثل هذه الفترة، وأخبر أنها آخر فترة من فترات تاريخ البشرية، وأنه إذا وجد هذا النوع من البشر الذين هم من أبناء المسلمين ويحسبون على الإسلام ويحملون في جيوبهم الهوية الإسلامية والاسم الإسلامي فذلك يعتبر بداية النهاية، وهذا أشد أنواع الخطر في حياة أي أمة من الأمم، كما في حديث حذيفة المعروف، ففي آخره قال حذيفة:(فقلت: يا رسول الله! وهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم.
دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها فقلت: يا رسول الله! صفهم لنا.
قال: قوم من أبناء جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا).
فهذه مصيبة أنهم من أبناء جلدتنا، ففي الجاهلية كان أبو لهب وأبو جهل والأسماء المكشوفة هم الذين يحاربون الإسلام، وكان الخطر أقل منه اليوم، لكن اليوم أصبح أحمد ومحمد وعبد الله وعبد الرحمن وعز الدين وما أشبه ذلك هم الذين يحاربون الإسلام في أيامنا الحاضرة، وفي بلاد الإسلام، ويدبجون أقوالهم بكلمات رنانة إسلامية، كما قال الله تعالى:{زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}[الأنعام:١١٢] من أجل أن يغروا الناس.
ومن هنا يبرز الخطر، وهذه نعتبرها من أكبر العقبات، أن يكون دعاة الباطل من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، ولهم منابر مهمة جداً، وربما يكون لهم قيم وأوزان عند الناس، وربما تكون لهم سوابق خدمة قد أدهشت كثيراً من الناس وشعاعها ما زال يبهر عيون كثير من الناس، فلا يظنون بهم إلا خيراً.
إذاً المصيبة تأتي من هذه الناحية، ولذلك نقول: إن دعاة الباطل ونشاط دعاة الباطل وتواجدهم في بلاد المسلمين وكونهم من أبناء المسلمين يعتبر من أعظم أنواع الأخطار، فلننتبه لهذا الخطر، ولنعلم أن هؤلاء الدعاة لا يتحركون إلا حينما يسكت دعاة الحق، وأن دعاة الحق بمقدار ما يسكتون عن هذا الحق يتحرك دعاة الباطل، وبهذا يتحملون هذه المسئولية أمام الله عز وجل حينما يقف الجميع بين يدي الله سبحانه وتعالى.