[حماية الفضيلة ومحاربة الرذيلة بتشريع حد الزنا]
يقول الله تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور:١].
(سورة): خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذه سورة.
والسورة مأخوذة إما من السوار، وهو ما يحيط باليد، أو من السور وهو الجدار المرتفع؛ لأن كل سورة من القرآن أحيطت بسور منيع من أولها إلى آخرها، فهي كالسور المنيع الذي يلتجئ إليه الخائف.
قوله تعالى: (أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا) نفهم منها: أن القرآن منزل غير مخلوق، خلاف ما يقوله المبتدعة الذين أحدثوا في دين الله تعالى.
أما الفرض فمعناه في اللغة: القطع أي: قطعنا بها، والمراد بقوله: (وفرضناها) أي: ألزمنا المسلمين بها إلزاماً مع أن القرآن كله ملزم، لكن لما كانت هذه السورة تحمل أهمية خاصة في حياة الأمم وفي شرف الأمم، قال الله تعالى: (وَفَرَضْنَاهَا).
قوله: (وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) والمراد بالآيات البينات ما سنذكره إن شاء الله من الأحكام والأخلاق والفضائل في النصف الأول من هذه السورة، أو ما يأتي في آخر السورة من الآيات الكونية التي وضعها الله عز وجل في هذا الكون، لتكون علامة على قدرة الله ووحدانيته تعالى.
وقوله: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (لعل) أصلها للترجي في لغة العرب، لكن إذا جاءت من الله عز وجل فليست للترجي وإنما هي للتوقع، أي: يتوقع تذكركم إذا قرأتم هذه السورة وعملتم بها؛ لأن الترجي لا يكون إلا من الأدنى إلى الأعلى، أما من الله سبحانه وتعالى فإنه لا يترجى وإنما يفرض أمره فرضاً، ولذلك يكون (لعل) هنا بمعنى اللام: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي: لتتذكروا.
بدأت الأحكام في هذه السورة بقوله سبحانه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:٢] هنا شيء يلفت النظر في هذه الآية، لا تجد آية في القرآن ولا حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ بالمرأة وإنما يبدأ بالرجل؛ يقول الله تعالى: {ولَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:٣٦]، ويقول سبحانه: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:٢٢٨] وليس معنى ذلك أن المرأة محتقرة، لكن هما شيئان أحدهما أفضل من الآخر، ويبدأ بالأفضل، ولذلك جاءت هذه الآية على خلاف المعروف في آيات القرآن العظيم، حيث بدأ بالمرأة ولم يبدأ بالرجل فقال: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) مع أننا نجد في سورة المائدة: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة:٣٨] فلماذا بدأ بالمرأة؟ لأن المرأة عندها من الدوافع إلى الزنا أكثر مما عند الرجل، لكن من نعمة الله عز وجل أن جعل المرأة لا تتحرك إلا إذا حركت، كما أن المرأة عندها من القدرة على نشر الفاحشة في المجتمع أكثر من قدرة الرجل، لو أن واحداً من الناس فسدت أخلاقه نعوذ بالله، وانحط في المجتمع، فإنه يفسد فرد وحده، لكن تصوروا امرأة واحدة لو فسدت في أمة لأفسدت أمة بأكملها، لو امرأة خرجت متبرجة في أكبر سوق من أسواق مدينة ما، فإنها ستفتن دين أمم ورجال كثيرين.
ولذلك قدمت المرأة على الرجل إشارة إلى أن عرض المرأة حساس، فهي إن وقعت في هذه الفاحشة نعوذ بالله سوف تدخل أولاداً على زوجها إن كان لها زوج ليسوا منه، وتدخل على مجتمعها وعلى بيتها أولاداً ليسوا شرعيين، لا تجد من يتزوجها إذا عرف أنها وقعت ذات يوم في فاحشة، بخلاف الرجل قد يُنسى أمره؛ ولذلك قدم الله تعالى المرأة على الرجل هنا من أجل أن يعلم الناس حساسية عرض المرأة، فهو أكثر حساسية من الرجل وأكثر خطورة من الرجل.
الرجل يمكن أن يفسد امرأة أو امرأتين لكن المرأة باستطاعتها أن تفسد آلاف الرجال معها.
والزنا في الشرع معناه: هو الوطء في فرج حرام، هذا يسمى زنا.
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) والجلد معناه: ضرب الجلد، ومائة جلدة هذا حكم خاص بالزاني غير المحصن؛ لأن الزاني في شرع الله عز وجل على نوعين: محصن، وغير محصن.
فالمحصن هو الذي تزوج ووطأ زوجته التي يوطأ مثلها بنكاح صحيح، وهما بالغان عاقلان حران.
أما غير المحصن فهو الذي لم تتوافر فيه هذه الشروط، والمحصن يرجم بعد أن يجلد، وغير المحصن يجلد مائة جلدة ويغرب سنة، هذا شرع الله عز وجل في حكم الزاني المحصن وغير المحصن، مع اختلاف بين العلماء في الجلد قبل الرجم.
أما بالنسبة للجلد والتغريب فهذا ورد في الشرع بأدلة كثيرة، وبعض العلماء يرى أن سجن المرأة لمدة سنة يكفي عن التغريب، المهم أن تغيب عن المجتمع التي فعلت فيه هذه الفاحشة.
قوله تعالى: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) هذا خطاب للحكام وللقضاة ولعامة الناس، ولذلك يا أخي! إذا مررت بامرأة تجلد أو رجل يجلد؛ بسبب الزنا فلا تجعل الرحمة في قلبك وتقول: والله هذا مسكين، أو هذه مسكينة، فتخالف أمر الله عز وجل، ولكن قل: هذا شرع الله الذي يطهر المجتمع، كما أن هذه الرأفة والرحمة لا يجوز أن تأخذ القضاة أو الحكام إلى أن يتساهلوا في تنفيذ هذه العقوبات.
والرأفة معناها: الرحمة والرقة، مع أن الله أمر المؤمنين دائماً وأبداً بالرحمة، لكن في باب الحدود لو طبقت هذه الرحمة لعطلت الحدود؛ ولذلك أصحاب القوانين الوضعية -قاتلهم الله أنى يؤفكون- في أيامنا الحاضرة يظهرون العطف على المجرم ويقولون: شهوة واحدة صغيرة في لحظة نرجم بسببها إنساناً أو نجلده مائة جلدة، هذه عقوبات قاسية، يسمونها العقوبات البشعة، وكأنهم أرحم من الله عز وجل الذي يعلم ما يصلح البشر.
والحقيقة أنهم كاذبون فليست هذه رحمة، وإنما هذا تفلت من حكم الله عز وجل؛ لأنهم ابتلوا بهذه الجرائم بأنفسهم.
قوله تعالى: (إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) هذا خطاب للمؤمنين، وهذا لإثارة الإيمان في النفس أي: إن كنت مؤمناً فلا تتعاطف مع أهل الرذيلة، كما تقول لفلان: إن كنت رجلاً فافعل كذا، تريد أن تثير حمية الرجولة في نفسه.
أيضاً عقوبة أخرى يقول عز وجل: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:٢] لا يكون الجلد داخل مكتب الشرطة، ولا يكون داخل مركز الهيئة، وإنما يجب أن يكون على مرأى من الناس؛ لأن الفضيحة التي يشعر بها صاحب الجريمة يجدها في نفسه أشد من الجلد؛ والستر مطلوب دائما وأبداً، لكن إذا بلغت الحدود السلطان فلا يصلح الستر ما يقال: هذا ابن فلان أو ابن الأكرمين، أو ابن الرجال أو ابن الملوك أو ابن الأمراء يجلد داخل مكان كذا، بل يجب أن يكون على مرأى من الناس، ولا بد أن تشهد هذه العقوبة.
قوله: (طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي: من المسلمين المطبقين لأوامر الله عز وجل؛ لأجل أن يشعر هذا بالفضيحة فيرتدع، ومن أجل أن يرتدع من يرى هذه الحدود وهي تقام.
وإقامة الحدود تقر عيون المؤمنين دائماً وأبداً، ولذلك يجب أن يشهد هذه العقوبة طائفة من المؤمنين.
أمر الحدود انتهينا منه في هذه الآية، أي: استقر الأمر أن يرجم الزاني إذا ثبت الزنا وكان محصناً، أو يجلد مائة جلدة إن لم يكن محصناً.
يا إخوتي! لا تظنوا أن الإسلام حينما يشرع هذه الحدود إنما يقيم مجازر، فالإسلام الذي وضع هذه العقوبة شدد في أمر ثبوت الزنا، ولذلك فإن الزنا في تاريخ الإسلام الطويل منذ أن نزلت هذه السورة إلى يومنا هذا ما ثبت بالشهادة، مستحيل أن يثبت بالشهادة؛ لأن الشهادة ليست في حد الزنا أن يرى الرجل على المرأة، وإنما هي أن يرى ذكره في فرجها عياناً، وأن يراه أربعة، حتى لو رآه واحد أو اثنان أو ثلاثة لا تقبل شهادتهم، بل لا بد من أن يكونوا أربعة شهود.
إذاً معنى ذلك: أن حد الزنا لم يثبت بالشهادة وإنما ثبت بالاعتراف، أو بالتهمة، والتهمة لا تأخذ حكم الحدود وإنما تأخذ حكم التعزير، كما يفعله القضاة والحكام من وضع عقوبات للزناة في أيامنا الحاضرة، إما أن يكون تعزيراً على تهمة أن فلاناً وجدت عنده فلانة في بيته، وهذه مظنة الزنا، لكن لا يقام عليه الحد، وإنما يعزر تعزيراً بحيث ينقص عن مقدار الحد، ولكن يجوز للقضاة والحكام التعزير وليس له حد محدد.
وإما أن يعترف الزاني، وهذا لم يثبت إلا نادراً في تاريخ الإسلام كما حدث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات: قصة ماعز رضي الله عنه.
وقصة المرأة الغامدية.
وقصة الرجل الذي قال: (يا رسول الله! إن ابني هذا كان عسيفاً عند فلان فزنى بامرأته)، وقد حكم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لكن بعد أن اعترفت المرأة واعترف الرجل.
إذاً: لم يثبت الزنا إلا بطريق الاعتراف؛ لأن الاحتياطات التي وضعت في طريق هذه الحدود عظيمة وشديدة، حتى قال العلماء: لو اعترف الإنسان بالزنا ثم تراجع عن اعترافه يترك ولو بدأنا في رجمه أو جلده؛ لأنه جاء في قصة ماعز رضي الله عنه أنه لما جاء فاعترف، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يرجم، فلما بدءوا يرجمونه أوجعته الحجارة فهرب فقضوا عليه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه)؛ لأنه جاء معترفاً، فهنا تراجع عن اعترافه.
قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:٣] هذه جاءت بين حد الزنا وحد القذف، هذه الآية لها سبب في نزولها، وهو (أن امرأة تدعى أم مهزول كانت مشهورة عند الناس بالزنا نعوذ بالله، فجاء رجل من المسلمين ليخطبها، فاستشار الرسول صلى الله عليه وسلم، فنهاه عن نكاحها، فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية: (الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)).
فلا يجوز أن يتزوج امرأة عفيفة وهو ما زال مكباً ومصراً على الزنا حتى يتوب، فلا يجوز له أن يتزوج إلا امرأة زانية مثله مشهورة بالزنا،