[الإخلاص لله سبحانه]
ثم يقول سبحانه وتعالى: (وَسَعَى لَهَا) والجار والمجرور هنا يعطينا شرطاً جديداً، قد يكون هناك سعي لكنه ليس لها، وإنما لغيرها، فالمنافقون يسعون لا للآخرة وإنما للدنيا، والعلمانيون يريدون أن يتخذوا مما يشبه السعي للحياة الآخرة جسراً وممراً لخديعة الناس بأنهم مسلمون ومتدينون، وهكذا كل الفئات الأخرى، فلا بد أن يكون السعي ابتغاء مرضاة الله عز وجل ومن أجل إعزاز هذا الدين.
(سَعْيَهَا) وهذا شرط رابع أيضاً، فالأسلوب والمعنى يتم (وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) الكلام تام، لكن قوله تعالى: (وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) يعطينا شرطين جديدين: أن يكون السعي خالصاً لوجه الله عز وجل، وأن يكون سعياً لها، ما يناسب حجمها، وكم من الناس من يسعى الآن، لكن ليس هو سعيها الذي يوصل إليها، وإننا لنمر ببعض الأضرحة من أجل العبرة لنرى ماذا يعمل المسلمون حول الأضرحة والقبور، فنرى أموراً عجيبة لا أطيقها أنا ولا أنت ولا أتقى الناس، حركات وعبادة من أول الليل إلى آخره حتى الصباح، يهزون أجسامهم، ويرهقونها، لكن ليس سعياً للآخرة، وإن كان في ظاهر أمره حسب ما يعتقدون أو يموهون بأنه هو السعي المطلوب، يتمسح بالقبر ويطوف حوله، يخشع ويسجد، ويتمرغ بالأتربة حوله، إلى غير ذلك.
وكذلك أصحاب البدع الذين يبذلون أموالهم وجهدهم في سبيل بدعة من البدع، هذا هو ليس سعيها، سعيها هو كما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، حتى إذا قلنا لأحدهم: لا تذهب -يا أخي- إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وتسأل حاجتك من دون الله، واذهب إلى الله، فقد قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:٥٠]، والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كان يفر إلى الله، ويقول: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:١٨٨] إذا قيل لهم ذلك قالوا: أنتم لا تحبون الرسول عليه الصلاة والسلام.
نقول: أنتم الذين لا تحبونه؛ لأن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست محبة عاطفة كمحبة الزوجة، ومحبة الأولاد، وإنما هي محبة عاطفة ومحبة متابعة، والله تعالى يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:٣١].
إذاً نحن مطالبون بأن نسعى لها سعيها لا سعياً لغيرها، سعياً يناسب حجم الآخرة وطريق الآخرة الطويل، وسعياً أيضاً يناسب المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم خالصاً صواباً، وهذا هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله التي نرددها في الأذان، وفي الإقامة، وفي الصلاة وفي كل شيء، معناها: طاعته وتصديقه واتباعه، وأن لا نعبد الله إلا بما شرع، فمن عبد الله على غير ما شرع الرسول صلى الله عليه وسلم فأعماله كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً.
ومن عبد الله على غير ما شرع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو العدو اللدود للرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان عمله في الظاهر يعجبك وكأنه عبادة، لكن لا بد أن يكون موافقاً صواباً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وإن عملنا عملاً لم يعمله الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مردود علينا، ومن عمل عملاً ليس عليه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ولا سلفنا الصالح -لا سيما الخلفاء الراشدون المهديون من بعده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي - وعلى غير المنهج الصحيح فإن الله تعالى يرده على صاحبه ولا يقبله، لماذا؟ لأن من يفعل ذلك يتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتقصير، وأنه ما بلغ الرسالة كلها، فـ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ما كانوا يقيمون مولد ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويأتي شخص بعد أربعة عشر قرناً من الزمن يقول: لا، إن من احترام الرسول صلى الله عليه وسلم أن نقيم مولده! والرسول صلى الله عليه وسلم ما عمل في ليلة النصف من شعبان أو ليلة الإسراء والمعراج أو ما أشبه ذلك عبادة حتى نحييها نحن فنقول: بدعة حسنة.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول في كل خطبة جمعة: (وكل محدثة بدعة).
إذاً هو يكذب الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يقول: هذه بدعة حسنة.
ويتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتقصير حينما يأتي بعبادة ما فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا السلف الصالح، ويدعي أن يحب الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من محبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم حينما يحدث عبادة ما فعلها هؤلاء.
فالمسألة خطيرة، بل إنه تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها) بل تكذيب لله عز وجل حينما قال سبحانه وتعالى في آخر آية نزلت من القرآن عشية عرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:٣]، ولذلك هؤلاء لا يستطيعون أن يدخلوا بدعة في دين الله إلا ويخرجوا مقابلها سنة؛ لأن الدائرة مقفلة وضيقة ومحدودة، لا تتسع لغير ما جاء من عند الله سبحانه وتعالى، فلا يمكن أن يدخل بدعة في وسط هذه الدائرة إلا ويميت سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً لا بد من تنفيذ قوله تعالى: (وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) ليس سعياً كما يروق لك، وكما يعجبك، العبادات مشروعة من عند الله عز وجل، وعلماء المسلمين يقولون: الأصل في العبادات التحريم، أي عبادة محرمة إلا إذا ورد دليل عليها، بخلاف العادات فالأصل فيها الإباحة إلا ما ورد دليل بتحريمه، فلو أن واحداً من الناس قال: الصلوات الخمس أنا أؤمن بها، لكني أريد أن أضع صلاة سادسة لأنه يوجد فصل طويل بين الصبح والظهر، وأريد أن أضع الصلاة السادسة بين الظهر والصبح في منتصف الضحى نقول: أنت مبتدع وكافر، وأنت مرتد عن دين الله.
مع أنه أحدث عبادة صلاة سادسة، فنقول: لا.
الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:٣].
فلو أن أحداً قال: أنا سوف أعتاد عمرة في يوم من الأيام أعتمر فيه نقول: العمرة عبادة، لكن لما وضعتها في وقت معين من دون دليل يحدد ذلك الوقت فإن هذا بدعة، وكل بدعة ضلالة، وهكذا.
إذاً -أيها الأخ الكريم- لا بد من أن نسير على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بد من أن نسعى لها سعيها، لا سعياً كما يعجبنا نحن، بل كما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم.