هذه هي المرحلة الأولى لغربة الإسلام؛ تصوروا قسوتها أيها الإخوان! وأنتم تعيشون اليوم غربة أخرى تزيد قسوة وضراوة على هذه الغربة في كثير من أحيانها، لكن كيف استطاع المؤمنون الأوائل أن يجتازوا تلك الغربة وأن يصلوا إلى ساحل النجاة والأمان؛ ليرتفع دين الله عز وجل وينتشر في الأرض، وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى؟ بأي شيء استطاعوا أن يجتازوا تلك الغربة؟ لقد شمر القوم عن سواعد الجد، وعاهدوا الله عز وجل على الجهاد، ورفضوا كل الإغراءات والمساومات التي عساها أن تصرف اليوم كثيراً من الناس عن اجتياز غربتنا اليوم، لقد تركوا الوطن والأهل والعشيرة حينما فرض عليهم ذلك، وكانوا يتمنون تلك الساعة التي ينتقلون فيها إلى المدينة؛ ليقيموا دولة الإسلام، ولو خرجوا من أموالهم وأهليهم وكل ما يتمتعون به، لقد خرجوا وتركوا الوطن، وتحول الأغنياء إلى فقراء، وتركوا كل ما يملكون من متاع الحياة الدنيا وزينتها، تركوه في مكة وانتقلوا بإيمانهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
لقد أعلن الصحابة الجهاد في سبيل الله، وأبرموا العقد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجهاد، حينما أنزل الله عز وجل هذه الوثيقة التزموا بها، فوقعوا عليها وصدقوا الله ما عاهدوه عليه، هذه الوثيقة نقرؤها في سورة التوبة:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ}[التوبة:١١١]، بل لقد فرح المسلمون بهذه البيعة، حتى قام عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لما سمع هذه الآية يتلوها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:(يا رسول الله! ما لنا إذا قتلنا في سبيل الله؟ قال: الجنة، فقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه والمؤمنون من ورائه: يا رسول الله! ربح البيع، والله لا نقيل ولا نستقيل).
لقد فرحوا بهذه البيعة التي لها ثمن ومثمن وبائع ومشتر: أما البائع فهو المؤمن، وأما المشتري فهو الله عز وجل، وأما الثمن فهو النفس والمال، وأما المثمن فهو الجنة، ولقد صدق الله عز وجل هذه الوثيقة في التوراة والإنجيل والقرآن؛ حتى لا يكون لأحد من الناس عذر في ألا يفي بهذه البيعة.
إخوتي في الله! هكذا اجتاز سلفنا الصالح تلك الغربة، وشمروا عن سواعد الجد، وتحملوا الأذى في سبيل الله، وتركوا الأهل والوطن والعشيرة، وصدقوا الله عز وجل ما عاهدوه عليه، قال عز وجل:{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ}[الأحزاب:٢٢ - ٢٤].
هكذا أيها الإخوان! يجتاز المؤمن الأمور الصعبة؛ لأن الأمور الصعبة لا يمكن أن يجتازها الناس بالنوم والراحة والمتاع والدعة؛ لأن الجنة كما أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم غالية نفيسة، يقول عليه الصلاة والسلام:(من خاف أدلج)، أي: مشى بالليل، والمراد بالإدلاج هنا: السعي الحثيث إلى الآخرة، (ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).