للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التوبة حقيقتها ووقتها]

بعد ذلك ذكر الله تعالى التوبة الحقيقية: ما هي؟ وما وقتها؟ وما شكلها؟ قال الله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء:١٧]، و (إنما) هنا للحصر، والتوبة معناها: قبول التوبة من الله عز وجل، واختلف العلماء بالنسبة لتفسير كلمة (على)؛ لأن (على) تدل على الوجوب، فيقول بعض المفسرين: إن الله تعالى قد أوجب التوبة على نفسه، أي: أن يقبل توبة من تاب إليه، بدليل قوله تعالى: (على الله)، ولم يقل: (من الله)؛ فـ (على) تدل على الوجوب، وليس هناك شيء واجب على الله عز وجل، ولكن لكرمه وإحسانه، وليطمئن ذلك العاصي الذي انغمس في الرذيلة والمعصية إلى ذقنه أن يطمع في الله عز وجل، وألا يقنط من روحه، فقال سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ)، فـ (على) وإن كانت للوجوب لكن وجوبها من الله عز وجل للعبد شيء أوجبه على نفسه سبحانه وتعالى؛ ولذلك فإن هذه الآية تعتبر أرجى الآيات بالنسبة لقبول التوبة من الله عز وجل على العبد؛ لأن الله تعالى فرضها وأوجبها على نفسه.

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ) لمن؟ {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:١٧]، ولعل أحداً من الناس حينما يسمع (بجهالة) ويسمع (من قريب) لربما ييأس بعض من انغمس طوال عمره في معصية الله عز وجل، وهو على علم ويقين من أنه عصى الله سبحانه متعمداً، لكننا نطمئنك بأن قوله تعالى: (بجهالة) ليس معناه بجهل، فحتى من عصى الله بعلم؛ فإن الله عز وجل يقبل توبته كما وعد.

ولا يجوز أن نفسر الجهالة بالجهل؛ لأن الجاهل غير مؤاخذ، فكل من جهل ذنباً فلا تسجل عليه المعصية، وإنما المراد بالجهالة أي: في أيام الجهل والغفلة، والضياع، والسفه، والشباب والصبوة في أيام مضت غفل فيها عن الله عز وجل، فأصبح كأنه جاهل؛ لأنه يعيش عصرا ًجاهلياً؛ وعلى هذا فليطمئن الذي أمضى عمره كله أو جله في معصية الله عز وجل، ثم أقبل على ربه سبحانه وتعالى؛ فليبشر بأن الله تعالى قد أوجب على نفسه سبحانه وتعالى أن يقبل هذه التوبة.

أما في قوله تعالى: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)، فقد يظن بعض الناس أنه لابد إذا فعل الذنب أن يقول في الحال: تبت، ويتوب حقيقة، وإلا فإن التوبة لا تقبل، وهذا فهم خاطئ؛ فإن المراد بالقريب في مثل هذه الآية: ما قبل الموت، فما قبل الموت كله يعتبر قريباً وإن طال الزمن على المعصية، بشرط: أن يكون هذا الإنسان دائماً وأبداً على وجل، وأن يحرص على المبادرة، وألا يهمل ويسوف في التوبة؛ لأن البعيد قد يكون قريباً، ولأن الناس يعيشون في مثل هذا الزمن الذي نعيشه يفاجئون بالموت مفاجأة وعلى غير استعداد، فقد كان آباؤنا وأجدادنا لا يموتون غالباً إلا على فراش الموت، بعد أن يمضوا مدة من الزمن تكون لهم معذرة وتنبيهاً، أما وقد أصبح الرجل يخرج من بيته فلا يرجع، ويقوم ولا يقعد، ولا يستطيع أن يرقد؛ فإن عليه أن يبادر بالتوبة؛ لأن هذا العصر الذي نعيشه هو عصر يفاجأ فيه الناس بالأجل على غير استعداد في كثير من الأحيان.

ولو عملنا إحصائيات للذين يموتون على الفرش، أو الذين يموتون في حوادث السيارات أو السكتات القلبية، أو الموت المفاجئ جملة؛ لوجدنا أن الأخير أكثر بكثير من النوع الأول، مما يفرض على هذا الإنسان أن يبادر بالتوبة والإنابة، لكن معنى قوله تعالى: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)، أي: قبل الموت، بدليل الآية التي بعدها: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:١٨].

إذاً: فهمنا من الآية الثانية أن المراد بالقرب هو ما قبل الموت، فلو أمضيت حياتك كلها في معصية الله عز وجل ثم تبت قبل الموت، فنعتبرك قد من الله عز وجل عليك فأمهلك فتبت من قريب، ولكن لا تظنن أن استمرارك على المعصية هو خير لك، بل هو مخاطرة في حسن الخاتمة، فلربما يدركك سوء الخاتمة.

(فَأُوْلَئِكَ) أي: الذين يعملون السوء بجهالة في فترة جهل وانصراف وإعراض وسفه، ويتوبون من قريب، {فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:١٧]، ولذلك جاء التعظيم لهم في قوله تعالى: (أولئك)؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.

وعلى هذا فإن الله عز وجل قد يمن على العاصي بأن يقلب كل سيئة عملها في أيام جهله -إذا صدقت توبته- إلى حسنة، كما قال في سورة الفرقان: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:٧٠]، أما هنا فيقول الله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:١٧]، أي: يقبل توبتهم، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:١٧]، يضع الأمور في مواضعها.

{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء:١٨]، في تلك الساعة لا تقبل التوبة، ولذلك جاء في الحديث: (إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، والمراد بالغرغرة: أن يضع الإنسان في حلقه ماءً يرجه رجاً، لكن المراد بالغرغرة هنا: أن تصل الروح إلى آخر مرحلة من مراحل الجسم، ولا يبقى إلا أن تخرج، كأنه يغرغر بالماء، ويغرغر بروحه؛ لأنها تريد الخروج، أو إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم تبلغ الروح الحلقوم، وهذا هو الأجل النهائي الذي لا تقبل فيه التوبة؛ لأن الإنسان في ساعة الموت يرى ملائكة الرحمة ويرى ملائكة العذاب، ويرى مقعده من الجنة ويرى مقعده من النار، ولذلك فإنه يكشف عنه الحجاب في تلك الساعة، وحينئذ لا تقبل التوبة.

أما التوبة العامة فقد وضع الله عز وجل لها أجلاً أيضاً، وهو: طلوع الشمس من مغربها، وطلوع الشمس من مغربها آخر علامة من علامات الساعة، كما أخبر الله عز وجل عن ذلك في قوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:١٥٨]، وفسر الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية بأنها طلوع الشمس من مغربها.

إذاً: هناك أجل لأي واحد منا ما لم تبلغ الروح الحلقوم، وهناك أجل لكل الناس: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:١٥٨]، أي: يوم تطلع الشمس من مغربها، {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:١٥٨].

{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء:١٨]، الآن لا تقبل التوبة، ولذلك فرعون لما أدركه الغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:٩٠] لما قال هذا الكلام قال الله تعالى له: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:٩١] الآن تتوب؟! ولذلك جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (علامة النور التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله)، وقد أخبر الله عز وجل عن قوم أنهم لا يتوبون إلا حينما يحضر الأجل: {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء:١٨]، ففي مثل هذه الساعة لا تقبل التوبة، والله تعالى يقول: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:٥٦ - ٥٧]، إلى غير ذلك، والله تعالى يقول: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:٥٩].