للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بين يدي آيات من سورة الفرقان]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب عليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن الآيات التي في آخر سورة الفرقان تتحدث عن صفات عباد الرحمن، وسورة الفرقان من أولها إلى هذا المقطع تتحدث عن الكافرين ومواقفهم ضد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} [الفرقان:٣٥]، ثم قال الله عز وجل بعد ذلك: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} [الفرقان:٣٧ - ٣٩].

ثم ذكر الله عز وجل كثيراً من جرائمهم ثم قال: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:٤٤].

ثم ذكر الله عز وجل أدلة قدرته وأدلة وحدانيته التي أصبح واقع هذه البشرية يخالفها، وكان المتوقع أن هذه البشرية تعرف ربها سبحانه وتعالى، لكن أغلبها بخلاف ذلك، فذكر كثيراً من أدلة وحدانيته سبحانه وتعالى فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:٤٦ - ٤٧]، إلى أن قال سبحانه وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:٦١ - ٦٢].

إذاً: الآيات التي سبقت هذه الآيات تتحدث عن الكافرين وعن مواقفهم من المرسلين عليهم الصلاة والسلام، وعن نهايتهم التي جعلها الله عز وجل نهاية كل مجرم وطاغوت، ثم إن الله عز وجل بين الأدلة الواضحة التي وضعها في الآفاق وفي الأنفس وفي السماء وفي الأرض لتكون أدلة واضحة تهدي هؤلاء البشر إلى الله عز وجل، فذكر الآيات التي آخرها: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:٦٢].

وبالرغم من الكفر والعناد العظيمين اللذين خيما على الأرض طيلة هذه الحياة الطويلة فإن لله عز وجل عباداً عرفوه حق المعرفة، أي: أن هذه الآيات التي في آخر السورة يختلف أصحابها اختلافاً كثيراً عن القوم الذين ذكر الله عز وجل أخبارهم في أول سورة الفرقان، فهناك أقوام عرفوا الله عز وجل من خلال الآيات في الآفاق والأنفس، فعرفوا الله، فأصبحوا عباداً لله لا عبيداً فقط؛ لأن هناك فرقاً بين (عبيد) و (عباد)، فلفظ العباد غالباً يطلق على المطيعين لله عز وجل، أما لفظ (عبيد) فهو من العبودية، فتطلق على كل مخلوق من مخلوقات الله عز وجل استعبده الله سبحانه وتعالى، فالناس كلهم عبيد لله رضي منهم من رضي بهذه العبودية وكره منهم من كره.

ومن هنا ندرك الفرق بين (عبيد) و (عباد): فلفظ (عباد) يُطلق غالباً على الملتزمين بأمر الله عز وجل، أما كلمة (عبيد) فإنها تطلق على عامة الخلق، ولذلك الله تعالى يقول عن هؤلاء الخلق يوم القيامة: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:٩٣]، وهذا في الآخرة، أما في الدنيا فالكل عبيد الله ساجدون لله رضوا أم أبوا، كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرعد:١٥]، وقال: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الجمعة:١]، وقال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:٤٤]، حتى الكافر المعاند العاصي لله عز وجل ولرسله عليهم الصلاة والسلام هو ما زال عبداً لله سبحانه وتعالى مستعبداً لله، فالخلق كلهم عبيد، ولكن هناك خلاصة العبيد وهم العباد، أي: الذين عرفوا الله عز وجل من خلال الآيات في الآفاق والأنفس، وأدركوا قدرته، وأدركوا وجوده، وأدركوا وحدانيته، فما عبدوا غير الله عز وجل، فأصبحوا عباداً لا عبيداً، وهذا هو الفرق بين (عبيد) و (عباد).