[الصنف الخامس: البائعون أنفسهم لله وابتغاء مرضاته]
هذا النوع هو الذي بلغ الذروة في الاستقامة والصلاح، في مقابل الذين يفسدون في الأرض ويهلكون الحرث والنسل، وإذا قيل لأحدهم: اتق الله، وأمر بطاعة الله، تكبر وتغطرس، وشمخ أنفه، وعلا برأسه، بالرغم من هذا هناك قوم في ذروة الاستقامة، من هؤلاء القوم؟ هؤلاء القوم هم الذين يشرون أنفسهم -أي: يبيعونها لله عز وجل- بينما أولئك يبيعون أنفسهم على الشيطان، ولا يرحمون أنفسهم، ولا يرحمون الأمة التي يعيشون معها، هؤلاء يقابلهم قوم يشرون أنفسهم لله عز وجل، ولذلك يقول الله تعالى عنهم:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ}[البقرة:٢٠٧]، أي: يبيع نفسه، كلما جاءت (يشري) بدون التاء فمعناها البيع، وليس الشراء، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}[البقرة:٢٠٧].
نزلت هذه الآية في رجل من المؤمنين قصته عجيبة، هذا الرجل هو صهيب الرومي رضي الله عنه، فقد كان من المؤمنين الأتقياء الفقراء المظلومين في مكة، ولما أذن الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة كان صهيب الرومي رضي الله عنه من أثرى أهل مكة، ما الذي فعله صهيب؟ أخذ أمواله ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقف له المشركون في الطريق، وقالوا: يا صهيب! أنت الرجل الدخيل فينا، أتيت من بلاد الروم رجلاً فقيراً، وإذا بك اليوم تحمل هذه الأموال الطائلة، والله لا نتركك أبداً، فقال: وماذا تريدون مني؟ قالوا: نريد كل أموالك، فقال: هذه كل أموالي خذوها، ودعوني ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: الآن فاذهب، فلما وصل إلى المدينة وجدهم يتلون هذه الآية:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة:٢٠٧]، فإذا بالمسلمين يقابلونه في الطريق ويهنئونه بهذه البيعة على الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم من ضمن هؤلاء، ويقول له:(ربح البيع أبا يحيى).
إن الذين يشرون أنفسهم ابتغاء مرضاة الله موجودون في كل عصر، وهم يبيعون أنفسهم وأموالهم وحتى راحتهم، ويعيشون ولو في قلق في هذه الحياة من أجل أن يظهر دين الله عز وجل، وهؤلاء هم الذين يدخلون ضمن هذه الآية:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}[البقرة:٢٠٧]، ولذلك أخبر الله تعالى أن هؤلاء باعوا أنفسهم وأموالهم على الله بالجنة، كما قال سبحانه وتعالى في سورة التوبة:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ}[التوبة:١١١]، ولما نزلت هذه الآية قام عبد الله بن رواحة وقال:(يا رسول الله! ما لنا؟ قال: الجنة، فقال: يا رسول الله! ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل)، يعني: لا نريد ثمناً غير هذا.
ولذلك فإن من المؤمنين اليوم عدداً كثيراً -والحمد لله- باعوا أنفسهم على الله عز وجل، وقدموا أنفسهم ولو غضب أعداء الله ولو غضب الطغاة، وقدموا دماءهم في سبيل الله عز وجل من أجل أن يظهر دين الله ولو حصل ما حصل.
ولذلك فما وقف الطغاة في الأرض مشدوهين أمام قوم أكثر من هؤلاء؛ لأن هؤلاء هم الذين لا يبالون بالموت، ولا بكل ما يخسرون من متاع الحياة الدنيا في ذات الله عز وجل، وفي سبيل مرضاة الله سبحانه وتعالى.