أما مغزى هذه القصة فهو واضح؛ لأن الحديث عن الأمم السابقة إنما هو من أجل أن تأخذ هذه الأمة درساً مدى الحياة؛ حتى لا تيأس من روح الله من ناحية، ومن ناحية أخرى حتى تأخذ بأسباب القوة والتقدم، والله عز وجل يقول:(من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)، هذا هو حكم الله عز وجل في هذه البرية، ولذلك فإن القصة عجيبة، تبدأ من طفل يلقى في النهر وتحدٍ، يقول الله عز وجل:{فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ}[القصص:٧]، مع أن القاعدة: أنه إذا خفت عليه أدخليه داخل الغرفة وأغلقي عليه الباب، وأسدلي الأستار حتى لا يعرف لكن هنا تحدٍ (أَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ)، مع أن هذا اليم -الذي هو نهر النيل- ينتهي بقصر فرعون، يعني: لو انقطع هذا الحبل كما حدث لانتهى في قصر فرعون، ولكن هذا كله من باب التحدي، قال تعالى:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}[القصص:٨].
إذاً: هذا هو ملخص القصة، وقد يستغرب أحد الناس حينما يقرأ القرآن، فيندر أن توجد سورة طويلة إلا وفيها قصة موسى مع فرعون وقصة بني إسرائيل، ما هو السر في ذلك؟ لعل السر في ذلك هو أن بني إسرائيل هم آخر الأمم قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولعل قائلاً يقول: عيسى عليه الصلاة والسلام جاء بعد موسى، وجاء أنبياء بعد موسى! فنقول: نعم، حتى عيسى عليه الصلاة والسلام بعث إلى بني إسرائيل، ولما بعث إلى بني إسرائيل آمن به من آمن من بني إسرائيل، وسموا أنفسهم نصارى، ثم انعزل النصارى عن بني إسرائيل، وهم في الحقيقة فرع من فروع بني إسرائيل، وغصن من أغصان شجرة بني إسرائيل.
إذاً: الحديث الطويل في القرآن عن بني إسرائيل لأنهم آخر الأمم من ناحية، ومن ناحية أخرى: أن في بني إسرائيل من العبر والآيات ما على مثله يؤمن البشر، أعطى الله عز وجل موسى آيات كونية إضافة إلى التوراة والصحف، تسع آيات كل واحدة تكفي لإيمان البشر عامة إلى يوم القيامة، ومع ذلك هذه الآيات التسع ما نفعت بني إسرائيل، حتى أراد الله عز وجل لهم الطرد والإبعاد في هذه الحياة؛ ليعيشوا مشردين في الأرض إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة، ما نفعتهم هذه الآيات التسع، وكذلك آل فرعون الذين جاءهم موسى عليه الصلاة والسلام بتسع آيات ما نفعتهم هذه الآيات، فكانت نهايتهم الغرق والدمار.
ولذلك بنو إسرائيل بناءً على هذه الآيات التسع التي جاءت من أجل أن تكون دافعاً لهم إلى الإيمان ما زادتهم إلا عتواً ونفوراً، والسر في ذلك هو الاستكبار الذي يصيب الأمم، فهنا فرعون قال الله عنه:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا}[القصص:٤]، فكان طغيانه سبب نهايته، وبنو إسرائيل أيضاً استكبروا في الأرض فكان ذلك سبب نهايتهم، ولذلك بنو إسرائيل يسمون أنفسهم: شعب الله المختار؛ انطلاقاً من قول الله تعالى:{وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}[الدخان:٣٢]، وحقيقة هذا الاختيار كان في زمن من الأزمان، لكن بعد أن انحرفوا عن دين موسى عليه الصلاة والسلام أصبحوا أذل الأمم وأبعدها، أما هم فيظنون أن بينهم وبين الله عز وجل نسباً فيقولون:{نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}[المائدة:١٨]، وليس بين أحد وبين الله عز وجل نسب، فالله تعالى:{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص:٣ - ٤]، لكنه التمسك بهذا الدين، فمن تمسك بهذا الدين فإن الله عز وجل يعطيه من الكرامات التي لم يعطها أحداً من العالمين، لكن حينما ينحرف فإنه ليس هناك بينه وبين الله عز وجل عهد ولا نسب، فليعلم الناس أجمعون في أي مكان من الأرض وفي أي عصر أنها سنة الله عز وجل في هذه الحياة، فإذا انحرف الناس عن سنة الله عز وجل في هذه الحياة فإن الله تعالى يقول عن النار:{أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[البقرة:٢٤]، أما الطرد والإبعاد من رحمة الله عز وجل في هذه الدنيا؛ فإنه مصير كل من ينحرف عن هذا الدين.