[الآيات الدالة على وجوب تحكيم شرع الله]
هنا يجيء مقطع جديد يوجب تحكيم شرع الله، وهل يصلح البشرية غير شرع الله؟ وهل تستقيم أمور الناس بشريعة غير شريعة الله؟ لا.
أبداً، فالإنسان لا يمكن أن تستقيم أموره، ولا يمكن أن تستقر أحواله، والعالم لا يمكن أن يخضع لنظام غير شرع الله عز وجل، ولذلك نسمع الآن أخبار هذا العالم الذي قد أمسك بالزناد في كل بلاد العالم، لا يهدأ له بال، فوضى، واضطرابات، ومشاكل، ومصائب، وسلب ونهب، وقتل وجرائم، ولصوصية واغتصاب، وفساد وزنا، وسرقة، ما الذي حدث؟! الذي حدث أن هذا العالم أعرض عن شرع الله، والله تعالى يقول: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة:١٣٧] وهذا الشقاق سيبقى ما بقي الإعراض عن شرع الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وما حكمت أئمتهم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم).
إذاً لا بد أن تحكم الأئمة بشرع الله، وإذا حكمت الأئمة بشرع الله هدأت الأمور، واستقرت الأحوال، ولذلك بمقدار ما يطبق الناس من شرع الله يكون لهم نصيب من الأمن والاستقرار والهدوء، وبمقدار ما يعرضون عن شرع الله يكون الأمر من الفوضى والاضطرابات والمشاكل.
نصيحة نوجهها لكل حاكم يحكم هذا العالم الإسلامي -بل العالم كله- أن يحكم بشرع الله عز وجل، وحينئذٍ يكون الأمن والاستقرار، والرخاء والطمأنينة، والهدوء والطاعة من الشعوب للقادة، بل لا يجوز لهذه الشعوب أن تخضع للقادة وهي تحكم بغير شرع الله، فالله تعالى أخبر بأن هؤلاء الذين يحكمون بغير شرع الله طواغيت، وأن الشعوب التي تستجيب لمن يحكم بغير شرع الله أيضاً هي طاغوت، فأي واحد من أفراد الشعب يعتبر طاغوتاً إذا تحاكم إلى غير شرع الله، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء:٦٠]، الذي يحكم بغير شرع الله {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:٦٠].
تضل الشعوب ضلالاً بعيداً إذا تحاكمت إلى غير شرع الله عز وجل، أما الطاغوت الذي يحكم بغير شرع الله تعالى فإنه هو الكافر المرتد، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة:٤٤] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [المائدة:٤٥] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:٤٧] وهنا ستجد قصة تحدث عنها القرآن تبين لماذا يعرض الإنسان عن شرع الله؟ إما أن يكون في قلبه مرض نفاق، أو يكون مرتاباً شاكاً بهذا الدين، أو يكون شاكاً بعدالة الله سبحانه وتعالى: {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور:٥٠] فلا يمكن أن يكون من يحكم بغير شرع الله إلا واحداً من هؤلاء الثلاثة، فمن يحكم بغير الشرع نقول له: أنت إما أن تكون مريض القلب منافقاً ما دام أنك تعرض عن شرع الله، وإما أن تكون مرتاباً شاكاً في هذا الدين أنه جاء من عند الله، وأن القرآن نزل من عند الله، وهذا هو الكفر الصريح، وإما أن تتهم الله تعالى بالحيف؛ لأن هذا حكم الله، فالله الذي حكم بين هؤلاء الناس، إذاً يحيف، أي: يميل مع بعضهم دون بعض فأنت إذاً ملحد مجرم في حق الله سبحانه وتعالى.
والقصة لها سبب نزول، وهو أنه ذات يوم اختصم رجل يهودي مع رجل منافق، والمنافقون أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى، المنافقون الذين يندسون في المجتمعات الإسلامية ويترهبنون مع المسلمين، ويتظاهرون بالدين، ويطعنون في الدين من الخلف أو من الأمام سراً أو علناً هم أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى، ما في الدنيا أخطر على الإسلام وعلى الدين من المنافقين، ولذلك ليس عجيباً أن يضعهم الله تعالى في الدرك الأسفل من النار، فاليهود والنصارى في النار، لكن هؤلاء في الدرك الأسفل من النار: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} [النساء:١٤٥] أي: النفاق الاعتقادي، نعوذ بالله.
فهذا الرجل الذي يتظاهر بأنه رجل مسلم وأنه يحكم شرع الله ويتباكى على الإسلام، وإذا تحدث فكما قال الله عز وجل: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} [البقرة:٢٠٤] فإنه يؤكد ويقول: أنا صادق فيما أقول، ويشهد الله أني صادق فيما أقول.
لكن قلبه فاسد وضد الإسلام {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:٢٠٤ - ٢٠٥].
فوجود هذا على وجه الأرض يسبب غضب الله، والذي يحدث من خلال غضبه أنه يهلك الحرث والنسل، إذاً المنافقون أخطر على الإسلام من غيرهم، ولو وجدناهم يتباكون على الإسلام ويتحدثون عنه ويقولون الخطب الرنانة التي يظهرون فيها أنهم مع الإسلام، وأنهم جنوده، لكن إذا كانوا يخفون في الباطن غير ذلك فإنها سريرة سوف يكشفها الله تعالى عما قريب؛ لأن الله تعالى يعلم السر وأخفى.
إذاً هؤلاء هم أخطر من يجب أن يخاف منه.
فالمنافق اختصم مع يهودي، واختلفا في بئر أو أرض، فقال اليهودي: نحتكم إلى محمد.
وهو لا يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، لكن يعرف أن محمداً صلى الله عليه وسلم سوف يحكم له في هذه، فقال المنافق: نحتكم إلى كعب بن الأشرف.
يهودي مجرم.
اليهودي يحتكم إلى الإسلام والمنافق يريد أن يحتكم إلى كعب بن الأشرف الرجل اليهودي المشهور! فأنزل الله عز وجل هذه الآيات تبين كيف يعرض الناس عن شرع الله، لماذا؟ لأنهم يرون أن الحق عليهم، وأن الإسلام سوف يرد الحق إلى صاحبه وأهله، فالإسلام عادل، ولا يمكن أن يميل مع رجل ولو كان يتظاهر بالإسلام وليس مسلماً صحيحاً، أو هب أنه مسلم صحيح ضد رجل يهودي، فقد قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} [النساء:١٠٥ - ١٠٧].
وهذه الآيات نزلت في شأن أناس كانوا يزعمون أنهم مسلمون، فسرقوا سرقة وألصقوا التهمة بغيرهم، لكن الإسلام لا يحيف مع أتباعه ضد أعدائه، الإسلام نظام حكم شامل لا يصلح الحياة إلا هو، فقام الذين يزعمون أنهم مسلمون بإلصاق التهمة بغيرهم، وجاء جماعة من قومهم يشهدون معهم، وكاد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحكم ضد المتهم، فهل تظن أن الله تعالى سوف يتركهم؟ لا، بل قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ} [النساء:١٠٥ - ١٠٦] فقد أخطأت.
ثم يقول الله تعالى بعد ذلك: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} [النساء:١٠٩].
الإسلام لا يفرق بين هذا وهذا، الإسلام لا يفرق بين ملك وسوقة، الإسلام لا يعطي حاكماً أكثر مما يعطي محكوماً من شرع الله عز وجل، الناس في حكم الله سواسية.
ويختصم علي بن أبي طالب ورجل يهودي ذات يوم، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين.
ورجل يهودي من فقراء اليهود، يفقد علي بن أبي طالب رضي الله عنه درعه في صفين، فيبحث عنه فيذكر له أنه عند يهودي، فيقول لليهودي: هذا درعي.
فيقول اليهودي: بل هو درعي.
فيحتكم الرجلان: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين الذي يحكم العالم الإسلامي كله مع رجل من فقراء اليهود دينه فاسد، ويجلسان أمام القاضي شريح، ويجلس القاضي شريح الاثنين جميعاً على كراسي الحكم؛ لأن الإسلام ليس فيه ملك ولا سوقة، فيقول شريح: ماذا عندك يا أبا الحسن؟ فيغضب علي حين قال له: أبا الحسن! لا يريد أن يعطيه لقباً أكثر من اليهودي، غضب حين أعطاه هذا اللقب دون أن يعطي اليهودي لقباً مثله.
فيقول: ماذا عندك؟ فيقول: عندي هذا الدرع أخذه اليهودي.
فيلتفت إلى اليهودي فيقول: الدرع لك يا يهودي أم لـ علي؟ فيقول: بل هو لي.
فيلتفت إلى علي فيقول: أعندك بينة؟ فيقول: والله ما عندي بينة.
فيقول: الدرع لليهودي.
تصوروا العدل الذي قامت عليه دولة إسلامية امتدت من الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً مدة طويلة من الزمن، إلى أن فسد هذا العدل وحصل فيه ما حصل، فيحكم بالدرع لليهودي ضد أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، ويقوم اليهودي والدرع معه، فيرجع اليهودي ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وأشهد أن هذه أحكام أنبياء، الدرع لك يا أمير المؤمنين، تبعتك يوم صفين فوجدته قد سقط منك.
لماذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ لأنه رأى العدل في حكم الإسلام فلو حكم المسلمون اليوم بالعدل حقيقة لدخل الناس كلهم في دين الله أفواجاً، فأندونيسيا سكانها مائة وخسمة وسبعون مليوناً، فيها الآن مائة وستون مليون مسلم، ما وصلهم داعية واحد في أول الإسلام، ولا وصلتهم جيوش إسلامية، وإنما وجدوا كيف يتعامل الإسلام مع الناس فدخلوا في الإسلام.
إذاً قصة ا