للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عودة الغربة وقسوتها في أيامنا الحاضرة]

يدور الزمان دورته، ويعيد التاريخ سيرته، وينام المسلمون على المتاع والراحة والدعة، ولا يستيقظون إلا وهم في غربة أقسى من تلك الغربة الأولى، ينام المسلمون حينما أتتهم الدنيا بشهواتها وملذاتها وهي راغمة، وحينما يغرق طائفة من المسلمين بالمتاع الحلال أو بالمتاع المشتبه، وما يدريك لعلهم قد غرقوا في كثير من المتاع الحرام.

ثم رفع الله عز وجل يده عن هؤلاء الناس بعد أن كانت دولة الإسلام تمتد من الصين إلى المحيط الأطلسي، وهي دولة واحدة يحكمها رجل واحد، يسير فيها المسلم مرفوع الرأس، لا تستوقفه إدارة جوازات تسأل عن هويته، ولا تستوقفه مراكز شرطة وأمن تسأل عن إقامته أو عن جواز سفره أو عن جنسيته، أما المسلم اليوم فيعيش في دولة صغيرة من مائة دولة أو أكثر في أيامنا الحاضرة في هذه المساحة؛ لأن الله عز وجل يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:٥٣]، ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:١١].

ومن هنا تمزقت الدولة الإسلامية على أيدي أعداء المسلمين الذين يتربصون بهم الدوائر، ليتحقق في المسلمين قول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:١٠٢ - ١٠٣] إنها دروس وعبر يرويها لنا التاريخ.

ومن هنا فقد المسلمون كثيراً من بلادهم، بل لقد أصبحت مواطن الإسلام الأولى الآن تهتز عروشها في كثير من البلاد الإسلامية تحت أصحابها؛ لأن الله عز وجل قد عاقب هؤلاء الذين عاثوا في الأرض فساداً، والذين أصبحوا قد تجرد كثير منهم عن دينه، واتجهوا إلى الشرق والغرب في أفكارهم وفي مللهم، وفي أحكامهم وفي تشريعهم، فالله عز وجل عاقبهم، ولذلك تسمعون أخبار هذا العالم عبر الأثير وفي الصحف وفي المجلات، وهذا العالم قد غرق في دمه إلى الركب، تسمعون أخبار لبنان، وتسمعون ما يحدث في العراق وما يحدث في إيران، وما يحدث في مناطق كثيرة من بلاد الله عز وجل الواسعة؛ لأن هؤلاء قد عصوا الله عز وجل؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيما يروي عن ربه سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني).

هذه الفتن تحل قريباً من دارنا، ولنا في ذلك عظة وعبرة، فليس بيننا وبين الله عز وجل عهد ولا ميثاق، فعلينا يا إخوتي! أن نستقيم على دين الله عز وجل، وأن نناصح القادة والمسئولين، وأن نقول لهم: اتقوا الله عز وجل، فإن ما يحدث قريباً منا ليس منا ببعيد، فعلينا أن نخشى الله.

لقد عادت الغربة في واقع المسلمين، فنجد أن هذه الغربة لم تترك جانباً من جوانب الحياة عند المسلمين إلا وأثرت فيه، لقد غزت المسلمين في اقتصادهم وفي أخلاقهم وفي أنظمتهم الاجتماعية وفي سلوكهم وفي رجالهم وفي نسائهم وفي حكامهم وفي شعوبهم، وكما تكونون يولى عليكم.