[النظرة المسمومة والآثار المترتبة عليها]
الحمد لله رب العالمين، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، صلى الله عليه وسلم وبارك، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:٣٠ - ٣٣].
في ظلال كتاب الله من سورة النور نقف مع هذه الآيات التي نحن أحوج ما نكون إليها دائماً وأبداً، واليوم تزيد حاجتنا إلى هذه الآداب والأخلاق، لعل الله سبحانه وتعالى أن يرفع ما بالمسلمين من بلاء ومصيبة، سيما أن كثيراً من المسلمين قد ضيع هذه الأوامر، وانفلت من القيد، فأصبحت أخلاقه على خطر، بل أصبح وجوده في هذا الكوكب على خطر عظيم، نسأل الله العافية والسلامة.
وسورة النور ركزت في نصفها الأول على الأخلاق والفضائل، ومحاربة الزنا والفواحش؛ لأن الزنا ما حل بأمة من الأمم إلا وسقطت من عين الله سبحانه وتعالى، وكذلك السفور والتبرج والخلاعة ما منيت بها أمة من الأمم إلا وقعت في شباك الشياطين شياطين الإنس والجن.
وسورة النور -أيضاً- ذكرت العوامل التي تكفل للإنسان أن يبتعد عن الفاحشة، ولا أقول: عن الجريمة؛ لأن الجريمة أصبحت في مفهوم العصر -مع الأسف- هي الذنب الذي يتأذى به الناس، أما ما يعصى به الله عز وجل من فواحش البشر ومن سيئات البشر فأصبح في مفهوم الناس لا يسمى جريمة، أما هذه الفاحشة فإن الله تعالى قد حاربها وسد كل طرقها ومسالكها بوسائل كثيرة، منها: أولاً: الحد، يقول عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:٢]، ثم صيانة المجتمع من الحديث الذي لا يجد رادعاً، ويسمى في مفهوم الإسلام القذف، وقد أمر الله عز وجل بجلد القاذف ثمانين جلدة، حتى لو كان صادقاً إذا لم يجد شهوداً يكملون العدد؛ لأنه إشاعة للفاحشة، وأي مجتمع لا يوجد فيه رادع لهذه القالة ييسر وجود الفاحشة في هذا المجتمع.
إذاً لو شهد ثلاثة شهود على إنسان بالزنا ولم يأتوا برابع فإن كل واحد منهم يجلد ثمانين جلدة، بدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:٤] كل هذا حتى لا يتحدث الناس بمثل هذه الفاحشة.
والقذف من أكبر المعاصي عند الله عز وجل، ولذلك رتب عليه عقوبة وحداً.
وسنتكلم عن الطريق التي توصل إلى الفاحشة، وهي تعتبر في حقيقة الأمر وفي واقع الناس أخطر طريق للفاحشة، ألا وهي النظرة المسمومة التي يقول الله عز وجل عنها في الحديث القدسي: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها من أجل مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه) هذه النظرة الخطيرة التي لربما لا يقيم لها الإنسان وزناً، ولربما يظن أن الله قد غفل عنه عند هذه النظرة، وينسى أن الله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، نظرة صغيرة تتبعها نظرة أخرى تتلوها نظرات، يتبع ذلك عشق وغرام، وانشغال قلب، يتبع ذلك تخطيط وبحث عن الفاحشة، وينتهي الأمر -نعوذ بالله- بأكبر الكبائر وبأكبر الآثام ألا وهو الزنا، ولذلك يقول الله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:٣٠] وفي الآية الثانية: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:٣١].
فما صلة البصر بالفرج؟ الصلة واضحة ومؤكدة، فإن النظرة توصل إلى فعل الفاحشة، ولذلك يقول الشاعر: كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر أي: كما أن شرارة صغيرة قد تهلك أمة بالحريق فإن النظرة مهما كانت -صغرت أم كبرت- فهي سامة تحدث فساداً عريضاً في أمة.
فالنظر يقترن بفعل الفرج، والدليل على ذلك قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:٣٠].
والنظرة معناها رؤية العين لعورة أو لجمال أو لأمر من الأمور يحدث فتنة، فهذه النظرة خطيرة، بدليل أن الله تعالى أعقبها بصيانة الفرج وبحفظ الفرج، فمن لم يحفظ بصره فإنه يصعب عليه أن يحصن فرجه، ولربما يتساهل في النظرة، لكنه لن يتساهل بها حينما يرى آثارها في نفسه وفي أمته، ولذلك يقول الله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ) هذا أمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمؤمنين، وهذا أبلغ في أمر الله عز وجل أن يكلف رسوله بتبليغ المؤمنين هذا الأمر، والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله.
قوله: (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) الغض معناه في اللغة: إطباق الجفن على الجفن ومعناه في الحقيقة: عدم النظر إلى عورة من العورات وإن لم يؤد ذلك إلى إطباق جفن على جفن.
فليست كل نظرة محرمة، وإنما النظرة المحرمة هي التي إلى غير المحارم، ولذلك يقول الله تعالى: (مِنْ أَبْصَارِهِمْ) ولم يقل: يغضوا أبصارهم.
لأن غض البصر عما أباح الله ليس أمراً واجباً ولا مطلوباً، وإنما المطلوب والواجب أن يغض البصر عما حرم الله عز وجل من النظر الحرام.
والنظرة المحرمة إذا كانت الأولى فإنه يسامح فيها الإنسان، والمقصود بالنظرة الأولى غير المقصودة، كأن يفتح بصره فيقع البصر على امرأة من غير محارمه، فعليه أن يتقي الله عز وجل وأن لا يعيد النظرة مرة أخرى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن لك الأولى وعليك الثانية) وليس معنى ذلك أن الأولى يسامح فيها مهما امتدت، وإنما نظرة الفجأة التي ينظر بها الإنسان إلى ما حرم الله دون إرادة، فعليه أن يغض بصره ولا يعيده مرة أخرى، وحينئذٍ يسامح على النظرة الأولى، ولكنه لا يسامح على النظرة الثانية، فالنظرة الثانية من الصغائر، ولربما تتلوها صغيرة وصغيرة حتى تصل إلى كبيرة، ثم تصل إلى أكبر الكبائر، وعلى هذا فإن غض البصر أمر واجب؛ لأنه لا يتم الواجب -وهو صيانة الفروج- إلا به (وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) وهذه قاعدة شرعية معروفة.