ثم بعد ذلك بدأ الدعاء الذي يقول الله عز وجل عنه:(ولعبدي ما سأل)، في قوله تعالى في النصف الثاني:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة:٦]، و (اهْدِنَا) لا بد أن تقرأ بهذا اللفظ؛ لأن هناك من العامة من يقرؤها:(أَهدنا) نعوذ بالله! وهذه القراءة تزيل اللفظ رأساً على عقب، وهي أيضاً تحريف في كتاب الله عز وجل، ولا يعذر الإنسان في ذلك، بل يجب أن يتعلم سورة الفاتحة من أولها إلى آخرها، بحركاتها وسكناتها، فإن من قرأ:(أهدنا) فيكون المعنى من الهدية، فالصلاة تعتبر غير صحيحة، سواء قرأها الإمام أو قرأها المنفرد أو المأموم، فلا بد أن يقرأها بهذا اللفظ:(اهْدِنَا)؛ لأن (اهْدِنَا) من الهداية، وهنا المطلوب الهداية، ومعنى (اهْدِنَا) أي: دلنا على الصراط المستقيم، ولا شك أن الذي يقرؤها ممن دله الله عز وجل على الصراط المستقيم، فكيف يقول:(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، وهو ما وقف يصلي بين يدي الله عز وجل إلا بعد أن اهتدى إلى الصراط المستقيم؟ فنقول: إن لها معنيين: أي: دلنا على الصراط المستقيم، وإذا اهتدينا إليه ثبتنا عليه، ويكون معنى (اهدنا) بالنسبة للمسلم وهو يقرؤها أي: اهدنا إليه هداية تامة مطلقة؛ لأن هناك من يزعم ويظن أنه على الصراط المستقيم، لكنه ضل الطريق، كما قلت لكم في غلاة الصوفية الذين انحرفوا عن الطريق، وكما يوجد في العلمانيين في هذا العصر، يقولون: إن هذا الدين دين عبادة، والقرآن نزل للعبادة، والمسلم مكلف بالعبادة فقط من عند الله عز وجل، أما بالنسبة لأنظمة الحياة فيقول هؤلاء العلمانيون: هذه ليست لله وإنما هي للبشر، هذا لله وهذا لشركائهم، ولذلك يرون أن هذا الدين لا يتدخل في أنظمة الحياة: لا في الأنظمة الاقتصادية، ولا في الأنظمة السياسية، ولا في الأنظمة الأخلاقية، ولا في الأكل ولا الشرب ولا اللباس، إنما يقول هؤلاء العلمانيون قاتلهم الله: إن معنى هذا الدين أن تذهب إلى المسجد تصلي إذا جاء وقت الصلاة، وتصوم إذا جاء رمضان، وتحج إذا جاء الحج وتعتمر إلى غير ذلك من العبادات، أما أموال الناس ومعاملاتهم وسلوكهم وحكمهم وسياستهم فيقولون: لا يتدخل الدين في ذلك، فهذا منهج العلمانيين.
أما الصوفية فإنهم يصرفون أنواعاً من العبادة لغير الله عز وجل، ويبدأ ذلك من البدع والعياذ بالله! والبدع كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في كل خطبة جمعة:(كل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة)، وعلى هذا: فإن أي بدعة فإنها تعتبر ضلالة في الحقيقة، وعلى هذا فإن المسلم مطالب بأن يسأل الله عز وجل دائماً الهداية، فإذا كان ذلك الإنسان ضالاً وهو يسأل الله الهداية ويقول: أنا مهتدي، وهو ضال في الحقيقة، كما ذكرت عن هؤلاء الذين يزعمون أنهم على الصراط المستقيم، فهؤلاء أشد الناس فتنة يوم القيامة، وهم في الدنيا يحسبون أنهم يحسنون صنعاً قال تعالى عنهم:{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}[الكهف:١٠٤]، وأخبر الله عز وجل عنهم في مكان آخر بقوله:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}[النور:٣٩].
فهؤلاء الذين يعبدون الله عز وجل على غير بصيرة أو بدون قاعدة التوحيد، أو المنافقون أو من كانت عندهم شطحات عظيمة تخرجهم من الملة:{يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}[الكهف:١٠٤]، و {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ}[النور:٣٩]، و (السراب) معناه: الشيء الذي يرى في شدة الحر وكأنه ماء للعطشان، فيركض وراءه، وكلما قرب ابتعد، والحقيقة أنه ليس ماءً، وإنما هو فقط أمام عينيه، وهكذا أعمال هؤلاء القوم الذين يحسبون أنهم على حق وهم على ضلال، ولذلك يروى أن علياً رضي الله عنه كان يسير في الطريق ذات يوم في صحراء، فمر بدير من أديرة اليهود فنادى، فأطل عليه راهب كانت الدموع تسيل على لحيته، فلما رآه علي رضي الله عنه قال: صدق الله العظيم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ}[الغاشية:٢]، أي: في الدنيا، {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً}[الغاشية:٣ - ٤]، أي: في الآخرة، فلا ينفع مثل هذا إيمانه؛ لأنه يبكي على غير منهج صحيح، ولذلك نلاحظ كثيراً من الناس يصرفون وقتاً كبيراً للعبادة، لكن هذه العبادة إما مبنية على قاعدة البدعة أو الشرك بالله عز وجل، أو عمل ليس على المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ليس صواباً غير مقبول.
ولذلك المسلم يقول:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة:٦]، فيطلب الهداية إن كان عنده شيء من الأخطاء التي تضله عن الطريق أو هناك من يضله، يسأل الله تعالى أن يهديه، ثم يسأل الله عز وجل الثبات أيضاً على ذلك، أي: ثبتنا على الصراط المستقيم؛ لأن الهداية هي دلالة وثبات، فالله تعالى هو الذي يدل الإنسان على الطريق المستقيم، وقد يضل أذكى الناس كما نشاهد في أيامنا الحاضرة، فإن الذين صنعوا الكمبيوتر والأجهزة الدقيقة، وصعدوا في الفضاء، ووصلوا إلى القمر، وغاصوا في أعماق الأرض، واكتشفوا أشياء دقيقة جداً، ما هداهم الله عز وجل إلى هذا الطريق المستقيم؛ لأن الله عز وجل لا يهدي إلا من يريد، والهداية لا تقوم على الذكاء، أو على الآباء والأمجاد، أو أبناء الذوات أو ما أشبه ذلك، وإنما تقوم على توفيق من الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول:{يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}[النور:٣٥]، ولذلك المسلم يكررها في كل ركعة، وفي غير الصلاة أيضاً:(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ).
وهذا دعاء يطلب من الله عز وجل وإن كان أمراً في ظاهره، لكنه لا يكون من الأقل للأعلى إلا دعاء، فالأمر له عدة حالات: فإذا كان من الأعلى أو من المساوي قد يكون أمراً، لكن إذا كان من الأقل إلى الأعلى فمعناه دعاء وتضرع بين يدي الله عز وجل، وطلب من الله عز وجل الهداية والثبات، وعلى هذا فإن معنى قوله:(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، أي: ثبتنا عليه، سؤال من الله عز وجل أن يثبتهم على الصراط المستقيم.
والمسلم دائماً عليه أن يتأكد من صحة المسار، ومن تأكده أن يكثر من قول:(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، بل إذا قالت له نفسه شيئاً من الغرور، يسأل الله عز وجل الثبات، وإن لم تقل له نفسه شيئاً من هذا الغرور فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الخلق وأحسنهم عملاً وإخلاصاً ومتابعة لأوامر الله عز وجل كان دائماً يقول:(اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، ونحن أولى بأن نقول ذلك؛ لأن الله عز وجل يقول:{وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران:١٠٢]، ولم يقل: أسلموا، وإنما قال:{وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران:١٠٢]، وجاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع -يعني: قرب الأجل- فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً في أهل النار:(وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع -أي: فيما يظهر للناس- فيسبق عليه الكتاب -أي: يقرب الأجل- فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، ويأتي إذا قرب الأجل ما قدره الله عز وجل له في اللوح المحفوظ، نسأل الله الثبات، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، فهو في طول حياته -نعوذ بالله- ضال، لكن الله عز وجل أراد له الهداية وحسن الخاتمة، ولذلك يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:(من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة) نسأل الله الثبات والموت على الملة.
قال تعالى:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة:٦]، أي: ثبتنا عليه، وهذا الثبات هو الذي يحرس هذا الإنسان؛ لأن الله تعالى يقول:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}[إبراهيم:٢٧]، وكم نرى من الناس من هو على صلاح وتقى، ولكن الله عز وجل أراد له الضلالة وسجل عليه الشقاوة في جبينه يوم كان في بطن أمه وفي اللوح المحفوظ؛ لأن أول ما خلق الله القلم فقال له:(اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)، فكتب ذلك كله في اللوح المحفوظ، فنرى صلاحاً وتقى في إنسان، ثم إذا به ينحرف نعوذ بالله! وقد نرى والحمد لله ما هو أكثر من ذلك في أيامنا الحاضرة، أناساً رأيناهم في ضلال، حتى إذا جاء الله عز وجل بهذه الصحوة الإسلامية المباركة، وهذا الاتجاه الطيب، وجدنا أن هؤلاء والحمد لله أصبحوا في مقدمة الصالحين، وقد يكونون أبناء أناس فسقة ومن الله عز وجل عليهم بالهداية، لاسيما في هذا العصر الذي أثلج -والحمد لله- صدور المؤمنين ما نشاهده من اتجاه إلى دين الله عز وجل، نسأل الله لهم الثبات والاتزان والانضباط، حتى لا يتعدوا الحدود التي شرعها الله عز وجل.