[الآيات الكونية وما فيها من تعظيم الله سبحانه]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وبارك وعلى آله ومن دعا بدعوته ونصح لأمته إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ * وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:٤١ - ٥٤].
أيها الأخ الكريم! هذه حلقة جديدة من سورة النور، والنصف الأول منها يتحدث عن موضوع واحد، وهو: كيف نحارب الرذيلة والفساد في الأرض؟ وكيف نكافح الزنا حتى لا يكون؟ وما هي الطرق الكفيلة بذلك؟ تنتهي تلك الاحتياطات ببيان منشأ الرجال وأين ينشأ الرجال، فالرجال لا ينشئون إلا في المسجد، ولا يتربون إلا في المسجد {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:٣٦] وهؤلاء الذين يتربون في المسجد كما عرفنا.
في قلوبهم نور، وهذا النور هو أعظم نور عرفه الإنسان {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} [النور:٣٥].
ثم انتهى الأمر بعد ذلك إلى بيان الخطر الذي يصيب الإنسان حينما يبتعد عن المسجد وعن الله وعن دين الله، فيعيش إما في أحلام، فتكون: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:٣٩] أو يعيش في ظلمة نعوذ بالله، فليست له أعمال ترجى، بل هي سيئات إثر سيئات، وكفر ومعاصٍ وإلحاد وعناد {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:٤٠].
انتهى المقطع الأول من هذه السورة إلى هذا الحد، وجاء الحديث عن الآيات الكونية التي وضعها الله عز وجل في هذا الأفق، وفي الأنفس، وفي هذا العالم، في السماوات وفي الأرض من أجل أن يهتدي هذا الإنسان، وكأن هذه الآيات الكونية وضعت بجوار الآيات الشرعية التي سبقت لتكون سبباً لهداية هذا الإنسان، فالإنسان الذي في قلبه نور ينشأ هذا النور في المسجد، والذي يفقد هذا النور يعيش في سراب، وفي أحلام يقظة، أو يعيش في بحر لجي فيه ظلمات إذا أخرج يده لم يكد يراها.
لكن الله عز وجل قد وضع في هذا الأفق أدلة ترشد إليه في السماوات والأرض وفي الأنفس، ولذلك الله تعالى بين أن هذه الآيات الموجودة في السماوات يتذكر من خلالها أولوا الألباب، قال تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:٢٠ - ٢١] فإذا لم يجد الإنسان آيات في الأرض تكفيه لتعرفه بربه سبحانه وتعالى فسوف يجد هذه الآيات في السماء، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:٦] وإذا لم ينظر في هذا ولا ذاك فلينظر في نفسه، قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:٢١].
فلو نظر هذا المخلوق المعاند لله عز وجل فيما وضع الله تعالى في هذا الكون من آيات ومخلوقات من جبال معلقة بين السماء والأرض وهو السحاب وينزل منها الماء ومن مخلوقات متحركة على وجه الأرض، دواب، إنسان، حيوان، زواحف، حشرات، كل هذه أدلة ترشد الإنسان إلى ربه سبحانه وتعالى، وقد يغفل هذا الإنسان عن هذه الآيات، فتكون النتيجة: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور:٣٩ - ٤٠].
لكن لو نظر هذا الكافر قبل أن يكون كافراً في هذه الآيات الكونية والأفقية والنفسية ليرى منها قدرة الخالق سبحانه وتعالى؛ ما كان هذا الإنسان ليكفر بالله عز وجل، وما كان لينكر الخالق سبحانه وتعالى وهو يرى آياته في هذا الوجود، وما كان ليزعم له شريكاً وهو يرى دقة الصنعة في هذا الوجود، وتلك الدقة التي خلقها الله عز وجل في كل مخلوق تدل على أنه الواحد، ولذلك الله تعالى يقول: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا} [الأنبياء:٢٢] أي: في السماوات والأرض، {آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:٢٢] لأن اختلاف الصانع يؤدي إلى اختلاف الصناعة، بل في دون هذا الكون من الأمور التي يشترك فيها أكثر من واحد في صنعها تظهر فيها علامات الخطأ والخلل، وضعف الصنعة، أما هذه المخلوقات التي خلقها الله عز وجل فهي دليل على الوحدانية.