[حقيقة المؤمن بين الدنيا والآخرة]
السؤال
إن الرجال الذين يتربون في المساجد هم من المؤمنين، لكن هل يعني هذا أنهم يمكن أن يبتعدوا عن واقع الحياة والناس خارج المسجد؟
الجواب
هنا ذكر الله تعالى الرجال وقال: {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:٣٧]، والعلماء والمفسرون ذكروا معنيين لهذه الآية: فبعضهم قالوا: ليست لهم تجارة وليست لهم أعمال.
على حد قول الشاعر: على لاحب لا يهتدى بمناره أي: ليس له منار يهتدى به.
وجمهور المفسرين على أن لهم تجارة، ويؤيد هذا الرأي سبب النزول، أو قول بعض الصحابة حينما رأى الصحابة وهم يغلقون متاجرهم ويهرولون إلى المسجد قال: (في هؤلاء نزل قول الله عز وجل: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:٣٧]).
وعلى هذا نقول: إن هؤلاء لهم تجارة، لكن هذه التجارة لم تلههم عن ذكر الله عز وجل، أما أن ينعزل المسلم عن المجتمع فلا، لا ينعزل عن المجتمع، وإنما المسلم يتعامل مع الناس في حدود ما أباح الله عز وجل، لكن هذا التعامل لا يجوز أن يشغله عن ذكر الله عز وجل، فإن شغله عن ذكر الله عز وجل أصبح هذا التعامل حراماً لا لذاته وإنما لما ترتب عليه، ولذلك نعرف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب أموال، وأصحاب متاجر، وأصحاب أعمال، كـ عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما، لكن هذه الأعمال كانوا يتخذونها قربة إلى الله عز وجل، ولذلك يقول الله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:١٧ - ١٨]، فدل على أن الأتقى قد يكون صاحب مال، والأتقى هو أفضل الناس وأكثرهم تقوى.
إن التجرد من الحياة الدنيا أمر غير مطلوب في شرع الله عز وجل، ونحن نعرف قصة الصحابة الثلاثة رضي الله عنهم الذين فكروا في شيء من التنطع في الدين فجاءوا إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوا عن عمله في السر، فلما أخبروا قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد، وقال الثاني: أما أنا فأصوم النهار ولا أفطر.
وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء.
فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم غضب وقام خطيباً وقال: (أما إني أتقاكم لله وأخشاكم له، ولكني أصلي وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
إذاً الرهبانية في الإسلام والانقطاع للعبادة وترك العمل هذا أمر غير مقبول، فالمسلم كما وصفه الله عز وجل بقوله {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:٢٠١]، ونعرف الوصايا التي قدمها العقلاء لـ قارون -ولو قبلها لكان خيراً له- حيث حكى الله قولهم: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} [القصص:٧٧].
إذاً نقول لهؤلاء الناس: اشتغلوا في الدنيا بقدر الاستطاعة، لكن اشتغلوا للآخرة فوق ذلك، واجعلوا الدنيا في أكفكم والآخرة في قلوبكم.
أما أن تطغى وتزيد أعمال الدنيا على أعمال الآخرة، أو أن يتخذ الإنسان هذه الدنيا وسيلة لمعصية الله عز وجل فهذا الذي لا يصح من المؤمن، لكن إذا اتخذها وسيلة لطاعة الله عز وجل ومطية لحياة أفضل فهذه هي صفة المؤمن.