فقارن -يا أخي- بين هؤلاء وعباد الرحمن الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً في الليل، فأحدهم يقوم فيقرأ السورة الطويلة، ويتململ بين يدي الله عز وجل ويحني ظهره لله عز وجل، والدموع تتساقط على الأرض من خشية الله، ويسجد ويضع أشرف أعضائه على الأرض خشية وذلة لله عز وجل، والعجيب أن هؤلاء بالرغم من خوفهم من الله عز وجل وعبادتهم الطويلة لله عز وجل يهجرون المنام؛ لأنهم يخافون من الآخرة، فاسمع إلى قول الله عز وجل عنهم:{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ}[الفرقان:٦٤ - ٦٥] أي أنهم يخافون من النار.
فما هو موقف الذين يبيتون أمام الأفلام والمحرمات وأمام الفواحش والزنا والخمور والمصائب العظيمة والمخدرات؟! فهؤلاء يبيتون لربهم سجداً وقياماً ويقولون:(رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ) وأولئك البعيدون يبيتون على ما حرم الله، ولا يقولون:(رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ)، وكان المنطق أن يقول هذه المقالة الذين يبيتون عصاة لله عز وجل، لكن الحقيقة أن الذي يقولها هم الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً؛ لأن الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً هم الذين عرفوا الله سبحانه وتعالى من خلال قيام الليل، ومن خلال الخلوات في ظلمة الليل، فإذا أسدل الليل جنحه وأرخى أستاره قاموا خاشعين لله عز وجل، فعرفوا الله سبحانه وتعالى، وخافوا من عذابه، فإذا أنهوا عبادتهم قالوا:(رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ) أما أولئك فكما قال الله عز وجل عنهم: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}[التوبة:٦٧]، وقال:{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}[الحشر:١٩]، فهم في غفلة وأحدهم نائم يغط في نوم عميق لا يستيقظ إلا حينما يأتي ملك الموت ليجلس عند رأسه ليقبض هذه الروح، وحينما يأتي ملك الموت ليقبض هذه الروح من ذلك الجسد يقول:{رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}[المؤمنون:٩٩ - ١٠٠]، فيقال له:{كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[المؤمنون:١٠٠].
إذاً الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً هم الذين يقولون:(رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ)، وهم الذين يخافون من جهنم، ويعتبرون جهنم أقسى عقوبة؛ لأنها غرامة لا تفارق الإنسان، كما لا يفارق الغريم غريمه، وإنما يطالبه حتى يأخذ حقه منه، فالنار تتابع هؤلاء حتى تأخذ حق الله عز وجل منهم.
وفي سورة المؤمنون ذكر الله عز وجل صفات عظيمة راقية للمؤمنين، ولما ذكرها قال عنهم عز وجل بعد ذلك:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}[المؤمنون:٦٠]، تقول عائشة رضي الله عنها:(قلت: يا رسول الله! {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}[المؤمنون:٦٠] أهم الذين يزنون ويسرقون ويفعلون الفواحش ويخافون؟ قال: لا يا ابنة الصديق، هم قوم يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون أن لا يتقبل ذلك منهم).
إذاً هناك فرق بعيد بين عباد الرحمن وعباد الشهوات، فعباد الرحمن بالرغم من طاعتهم لله عز وجل وبالرغم من هجرهم ألذ متع الحياة الذي هو النوم والمتاع الذي يكون على الفراش هم خائفون.
فيا أخي! أولى لي أنا وأنت حين فرطنا في كثير من أوامر الله عز وجل أن نخاف، وأن نكثر من قولنا:(ربنا اصرف عنا عذاب جهنم)، وأولى بذلك البعيد الذي أمضى حياته كلها في معصية الله عز وجل بعيداً عن طاعته يركب كل ما عن له وطاب ولذ من معاصي الله عز وجل ولا يقف عند حد من حدود الله، أولى به أن يقول:(ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً)، وذلك بعد أن يقدم الطاعة المطلقة لله عز وجل، والتوبة والإنابة قبل أن يحضر الأجل.
قال عز وجل:{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}[الفرقان:٦٥ - ٦٦] أي: ساء من استقر بها، وساء من أقام بها، فهي مصيبة عظيمة لا تصيب إلا أعداء الله عز وجل، وهي أسوأ ما يعذب الله عز وجل به عباده، فقد ساءت مستقراً وساءت مقاماً.