وهذه من الآيات المنسوخة حكماً، فقد كان في أول الإسلام وقبل أن تنزل الحدود، وقبل أن تشرع، بما في ذلك حد الزنا الذي يقول الله عز وجل عنه في سورة النور:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}[النور:٢]، ويقول في سورة الأحزاب في آية منسوخة اللفظ:(الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة)، وهناك أحاديث صحيحة وردت برجم الزاني المحصن، وجلد وتغريب الزاني والزانية غير المحصنين، فقبل أن ينزل ذلكم الحكم كان الأمر كما ذكر الله عز وجل هنا:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ}[النساء:١٥]، والمراد بالفاحشة هنا: فاحشة الزنا على رأي جمهور علماء التفسير، وإن كانت قد فسرت عند طائفة منهم بفاحشة الخطأ، أي: الفحش في القول بالنسبة لمعاملة الرجل للمرأة، لكن الفاحشة حينما تذكر مطلقة إنما يراد بها فاحشة الزنا، ويؤيدها الحديث الذي سوف نذكره إن شاء الله.
إذاً: المراد بالفاحشة هنا فاحشة الزنا، وهذا في أول الإسلام، فقد أمر الله عز وجل أن نستشهد على المرأة إذا وجدناها تمارس فاحشة الزنا أربعة من الشهود، وإن كان قد نسخ لفظ هذه الآية وحكمها، لكنه بقي الاحتفاظ بالشهود الأربعة، فنجد هنا الأربعة الشهود، ونجد في سورة النور:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}[النور:٢]، ثم يذكر الله عز وجل الأربعة الشهود:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}[النور:٤].
ثم يذكر بعد ذلك آية الملاعنة؛ حيث خفف الله عز وجل عن الزوج حينما يشك في صلاح زوجته واستقامتها، وحينما يجد عندها -نسأل الله العافية والسلامة- رجلاً في فعل الحرام؛ فإنه يكلف بأربعة أيمان بدل أربعة شهود، وعلى هذا فإن الزنا لا يثبت إلا بأربعة شهود يشهدون شهادة واضحة على فعل الرجل أو فعل المرأة الفاحشة، وحينئذٍ يقام الحد.
ويكفي عن هؤلاء الشهود الأربعة أربعة اعترافات، كما حصل من ماعز بن مالك رضي الله عنه حين وقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:(يا رسول الله! إني زنيت، فأعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قالها ثانيةً، وثالثة، حتى إذا كررها في الرابعة قال صلى الله عليه وسلم: أبك جنون؟ هل فعلت كذا) إلخ، ثم أقام عليه الحد.
وهنا ذكر الله عز وجل حتى في الآية المنسوخة أن الحكم يكون بأربعة شهود، فقال:(فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ)، أي: أربعة شهود عدول، و (منكم) الضمير يعود إلى المسلمين، وعلى هذا فإنها لا تقبل شهادة الكافر، كما لا تقبل شهادة الفاسق؛ فالكافر لا تقبل شهادته في حدود الله عز وجل، كما أن الفاسق الذي عرف منه فسق وتعدٍ لحدود الله عز وجل لا تقبل شهادته، فإن الضمير في قوله:(منكم) يعود إلى المسلمين العدول.
قال تعالى:{فَإِنْ شَهِدُوا}[النساء:١٥]، أي: شهدوا بأنها فعلت الفاحشة، {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}[النساء:١٥]، هذه الآية -كما قلت لكم- منسوخة بما في سورة النور:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}[النور:٢]، وبالأحاديث الصحيحة في رجم الزاني، وقد كان ذلك في أول الإسلام، فقد أمر المسلمون أن يعاملوا الزانيات بأن يمسكوهن في البيوت، وأن يؤذوا الرجال، كما في الآية الثانية، حتى نزلت آيات الحدود، فقال عليه الصلاة والسلام:(خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، وقوله عليه الصلاة والسلام:(قد جعل الله لهن سبيلاً)، إشارة إلى قول الله تعالى:{أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}[النساء:١٥]، فتكون هذه الآية منسوخة بآية النور وبالأحاديث الصحيحة.