حياة موسى كحياة سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بدأت بشدة، ومن منطلق قسوة، ولكنها بدأت -أيضاً- بتحدٍ عنيف من الله عز وجل لهذا الطاغية، فقد تحدى الله عز وجل فرعون بتحديات كثيرة، ففرعون رأى في منامه رؤيا، فسأل عن ذلك المنجمين والكهنة، فقالوا له: إن مولوداً في بني إسرائيل سوف يولد يكون سقوط عرشك على يده.
فقرر قتل الأبناء الذكور كافة واستبقاء النساء، ثم بعد ذلك لما رأى أنه سوف يقضي على النسل صار يقتل الذرية من الذكور عاماً ويبقيهم عاماً آخر، لكنه بالرغم من هذه الفكرة يولد موسى عليه الصلاة والسلام في العام الذي يقرر فيه القتل، لا في العام الذي يستبقي فيه الذكور، وهو الرجل الذي سيسقط حضارة الفراعنة، ويقيم العدل في المعمورة، ويقضي على الطغيان الذي مضت عليه السنون الطويلة، وهذا زيادة ونكاية في التحدي لفرعون.
والعجيب أن الله عز وجل يأمر أم موسى عليه الصلاة والسلام أنها إذا خافت عليه أن تلقيه في اليم، وهذا خلاف القاعدة المتبعة التي يستخدمها الناس للمحافظة على أطفالهم، فلا يوضع الطفل في البحر إذا خيف عليه، وإنما يوضع في غرفة وتقفل عليه الأبواب، هذه هي القاعدة المتبعة في حماية الأطفال من البلاء والفتن، فمتى كان الإلقاء في اليم يعتبر أمناً لطفل من الأطفال ما زال رضيعاً؟! لكن في هذا مزيدٌ من التحدي لفرعون:{فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ}[القصص:٧] وأراد الله عز وجل أن يري فرعون وأن يعلم الناس أن كل الاحتياطات التي تتخذ لابد من أن يبطل مفعولها حينما يريد الله عز وجل أمراً من الأمور.
ويزيد هذا التحدي فيذهب من اليم إلى قصر فرعون، وفرعون -كما هو معلوم- متعطش لدماء بني إسرائيل، ثم يدخل قصر فرعون هذا الطفل الذي يتأكد فرعون أنه إسرائيلي لا محالة؛ لأن علامات التكتم موجودة وظاهرة، وذلك حينما وضع في تابوت، فيلقي الله عز وجل عليه المحبة، وهم لا يشعرون أن هلاك فرعون وزبانيته سيكون على يدي هذا الطفل حينما يكبر، ولا يشعرون مكر الله عز وجل بهؤلاء الماكرين الطغاة الظلمة، قال تعالى:{وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[القصص:٩]، ولذلك يتربى هذا الطفل في قصر فرعون وفي رعايته وفي كنفه وفي حجره كما يتربى ولد أي إنسان، لكنهم لا يعرفون عاقبة أمرهم.
ثم نجد أن رعاية الله عز وجل تتابع موسى عليه الصلاة السلام متابعة دقيقة، فيحرم الله عز وجل عليه المراضع، فكلما عرض على مرضعة لترضعه يأبى أن يقبل ثديها حتى يصل إلى أمه لترضعه وتأخذ عليه الأجرة، وهكذا تدركه عناية الله عز وجل منذ أيام الطفولة، وهكذا يربي الله عز وجل أولياءه المتقين، يقول الله عز وجل:{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}[القصص:١٢ - ١٣] وبناءً على ذلك نقول: إن الله عز وجل إذا أراد أن ينفذ أمراً من أوامره لا يمكن لأي إنسان أن يقف في وجه هذا الأمر أو يحول دون تنفيذه؛ لأن الله عز وجل له الأمر من قبل ومن بعد.