للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أزلية الصراع بين الحق والباطل]

بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، نشكره ولا نكفره؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الذي بعثه الله رحمة للعالمين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.

أما بعد: فما أجمل استغلال الساعات العصيبة التي نرجو الله سبحانه وتعالى فيها أن يهلك الظالمين بالظالمين، ويخرج المسلمين من كيدهم سالمين! إن الموضوع الذي نتناوله هنا يتعلق بشكل كبير بأحداث الساعة، وهو: أسباب النصر وأسباب الهزيمة، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لنقول ما ينفعنا والمسلمين! قبل الحديث في هذا الموضوع نحتاج إلى أمرين: الأمر الأول: أن نرجع إلى المنهج الصحيح المثبت في كتاب الله عز وجل وسنة وسيرة رسوله خير البرية عليه الصلاة والسلام، وسيرة أصحابه ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.

الأمر الثاني: أن نعي خطورة الموقف.

ومن خلال ذلك نستطيع -بتوفيق الله تعالى- أن نستشف أسباب النصر وأسباب الهزيمة.

إن الصراع بيننا وبين عدونا قديم قدم الحياة الدنيا، قال تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:٣٦] فكانت هذه هي البداية، وسيبقى الصراع حتى يرث الله الأرض ومن عليها، قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:٢١٧] ولا يمكن أن ينتهي هذا الصراع أبداً؛ ولذلك شرع الجهاد، ولم يزل قائماً منذ صدر الإسلام، اللهم إلا في فترات يضعف المسلمون فيها عن الجهاد في سبيل الله، ولذلك فإن الأمة الإسلامية مسئولة عن رفع راية الجهاد في كل فترة؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:٣٩] فهذه غاية، بل ونهاية آخر مرحلة من مراحل التكليف بالجهاد، الذي بدأ بالأمر بالصبر في مرحلته الأولى -المرحلة المكية- ثم تلا ذلك الأمر بدفع العدو في أول المرحلة التالية -المرحلة المدنية- ثم قتال العدو أو أخذ الجزية منه في المرحلة الوسطى، ثم المرحلة الرابعة والأخيرة -وهي التي يجب أن يعيها المسلمون دائماً وأبداً- ألا يوضع السلاح ولا يترك الجهاد طاعة لله عز وجل القائل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:٣٩].

وإن كان الواقع خلاف ذلك فالمسلمون مسئولون عن التقصير، إذ ركنوا إلى الدنيا ولم يقوموا بهذا الدور، وهذا عين التفريط في أمر من أعظم الأمور التي حملهم الله عز وجل مسئوليتها، وتجاهل أكثرهم أنهم إذا تركوا الجهاد ذلوا، وتسلط عليهم أعداؤهم، وغزوهم في عقر دارهم.

فيجب أن يكون الجهاد في سبيل الله مرفوع الرايات كما قال الله عز وجل: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:٣٩]، ونريد هنا أن نفهم معنى الفتنة، فالناس في أيامنا الحاضرة لا يفهمون عن الفتنة إلا أنها الاضطرابات وعدم الانضباط وعدم استقرار الأمور، لكن الفتنة في مفهوم القرآن الكريم هي: الكفر والردة عن الإسلام، ولو كانت الأمور المعيشية مستقرة استقراراً كاملاً، وهادئة هدوءاً منتظماً، فما دام أن في الأرض من يدين لغير الله، ومن يعبد غير الله، وما دام أن فيها نظاماً أو أمة تحكم بغير شرع الله، فهذه هي الفتنة التي أُمرنا بالجهاد حتى لا تكون هذه الفتنة قائمة، ولو كانت الأمور المادية مستقرة.

هذا هو مفهوم الفتنة -الذي يجب أن يفهمه المسلم- بدليل قوله تعالى: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:٣٩] وهذا -أيضاً- يبين أن الغاية من منع قيام الفتنة هي حفظ دين الله تعالى، ولذلك يقول الله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:٢١٧]، ويقول: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:١٩١] وهذا دليل على أن الفتنة شيء والقتل شيء آخر، والفتنة أشد وأكبر من القتل؛ فتأمل!! وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:٦٣] أي: عن أمر رسوله عليه السلام {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:٦٣] أي: كفر أو ردة عن الإسلام {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:٦٣] فالفتنة هنا تفيد شيئاً آخر غير العذاب.

فعلى المسلمين أن يصححوا هذا المفهوم، فإذا استقرت الأمور مادياً مع وجود بلاء ومصائب، وإجرام وفساد في الأرض، وردة عن الإسلام؛ فهذه هي الفتنة؛ وإذا وجد الخلاف والنزاع في الأرض على الحق، وفي سبيل البحث عن الحق، فليست هذه هي الفتنة؛ وهذا هو مفهوم القرآن الكريم.

فعلى المسلم أن يعرف أن الصراع بينه وبين عدوه قديم قدم الحياة الدنيا، وباق حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فلا مجال لترك الجهاد في سبيل الله تعالى.

وبمقدار ما يتخلف المسلمون عن هذا الواجب يتحرك العدو مستهدفاً دينهم وأنفسهم وأرضهم وأموالهم، ولا يوقفه عن عدوانه ويكف كيده ويطفئ ناره إلا الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله جل وعلا؛ لأننا عرفنا هذا العدو جيداً، وأنه كالفئران لا تتحرك إلا حينما تهدأ الأمور.