الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبارك، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: فما زلنا في سلسلة آيات سورة النور نتحدث عن بعض أسرار هذه السورة العظيمة التي أعطاها الله عز وجل عناية وميزة فقال في مطلعها عز من قائل: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النور:١].
أيها الأخ الكريم! نحن نعرف يقيناً بأن الله عز وجل خالق هذه البرية وهذا العالم، وهو الذي يعلم أسراره ويعلم ما يصلح شئونه وما يفسده، ولذلك فإن خبره عز وجل صدق كما أن حكمه عدل، قال تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}[الأنعام:١١٥] ثم جرت سنة الله عز وجل في هذه الحياة أن يضع لها نواميس وأنظمة، ويدور بقاء هذه البشرية ونهايتها حول أسباب البقاء وأسباب النهاية.
يقول الله عز وجل:{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ}[الأعراف:٣٤] وكما أن للأفراد آجالاً فإن للأمم آجالاً أيضاً، فالله عز وجل قد يبسط الدنيا لأمة وييسر لها وسائل البقاء والتطور والتقدم، ولكن الله عز وجل يطالبها بمقدار ما يعطيها من وسائل البسط والبقاء أن تستقيم على شرع الله، وأن تلتزم منهجه، ويضع للاستخلاف والبقاء أسباباً ونواميس، فإذا أخذت الأمة بهذه الأسباب فإن الله عز وجل لا يخلف وعده، ولكنها حينما تأخذ بهذه الأسباب ثم تتخلف عنها في يوم من الأيام فإن الله عز وجل لا يغيروا ما بقوم حتى يغير ما بأنفسهم، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الأنفال:٥٣]، ولذلك سوف تجد في آية الاستخلاف والتمكين والأمن والطمأنينة {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[النور:٥٥] وهذا وعيد، والوصف بالفسق لا يعني ذلك أن الأمر يقف عند فسق ثم ينتهي الأمر، فإن لله محارم ولله عز وجل غيرة، فإذا تجرأت هذه الأمة على محارم الله فإن الله عز وجل لها بالمرصاد.
أيها الأخ الكريم! يقول تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ}[النور:٥٥]، فنجد أن هذه الآية اشترطت أربعة شروط، ثم وعد الله عز وجل هذه الأمة إذا وفت بهذه الشروط أن تتحقق لها ثلاثة أمور مهمة تسعى إليها كل الأمم، فجميع الأمم التي تخوض الحروب العالمية الدامية بما في ذلك الحربان العالميتان اللتان أفنتا عشرات الملايين من البشر، واللتان دمرتا جزءاً كبيراً من الكرة الأرضية الهدف من وراءها البحث عن الاستخلاف في الأرض، والبحث عن تمكين دين أياً كان هذا الدين، أو معتقد أياً كان هذا المعتقد، والبحث عن الأمن والطمأنينة، ولكن الذي خاض كيد الحربين العالميتين لم يستطع أن يحقق الأمن والطمأنينة لنفسه فضلاً أن يحققهما للعالم، وإن كان قد حصل على شيء من المكاسب لكنه لم يستطع بعد ذلك أن تبقى حضارته آمنة مطمئنة؛ لأن الشروط غير متوافرة، فالشروط أربعة، وهي قوله تعالى:(آمنوا منكم) وكأن الخطاب موجه بصفة خاصة للأمة الإسلامية؛ لأن الضمير يعود إلى الأمة الإسلامية، وقوله:(وعملوا الصالحات) وقوله: (يعبدونني) وقوله: (لا يشركون بي شيئاً) فهذه أربعة شروط لا بد أن يعيها هؤلاء الناس حتى يلتزموا بها التزاماً كاملاً، وحتى يقيموها في حياتهم اليومية دائماً وأبداً، لا يغفلوا عنها ساعة من الزمن، وحينئذ سوف يتحقق ذلك الوعد، وقد تحقق ذلك الوعد يوم طبقت الأمة الإسلامية هذه الشروط الأربعة في عصرها الذهبي في عهد سلفنا السلف ورعيلنا الأول.