[ساعة الموت والقدوم على الله تعالى]
يشبه هذا الموقف أيضاً قول الله عز وجل وهو يصور لنا ساعة الموت، وساعة القدوم على الله عز وجل، وساعة الحساب في سورة (ق)، فيقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [قّ:١٦ - ١٩]، كأن الإنسان قد شرب خمراً؛ لأنه قد ذهب عقله، وفقد توازنه، ولذلك فإن الله عز وجل سمى ساعة الموت سكرة، فقال: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ)، أي: أنها شيء ثابت لابد منه أن يقع.
ثم يقول الله عز وجل عن هذه السكرة وعن هذا الموت: (ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)، يعني: مضى عمرك وأنت تحيد عن الموت، إذا قيل لك: إن في هذا الطريق خطراً سلكت طريقاً أخرى، حتى لا تقع في الخطر، وحتى لا يصيبك الموت، وإذا قيل لك: إن فيك مرضاً خبيثاً؛ ذهبت تعالج نفسك، ولا تلام على ذلك، وإذا قيل لك: إن هناك خطراً في مكان ما؛ هربت من هذا المكان، كنت تحيد، لكنك اليوم لا تحيد؛ لأن الموت قد حان أجله وجاء موعده؛ فأصبح لزاماً أن تتجرع كأس الموت، ولذلك الله تعالى يقول: (ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ).
والموت بداية وليس نهاية، وإن كان الموت نهاية في نظر الملاحدة الماديين الذين ينكرون حياة الآخرة؛ فإنه في نظر المؤمنين بداية لا نهاية، ولذلك ذكر الله تعالى البداية مع هذه الصورة التي قد صورها الملاحدة فقال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [قّ:٢٠]، أي: بدأت حياة أخرى، والصور أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الملك ينتظر أن ينفخ فيه، فينفخ فيه ثلاث نفخات: النفخة الأولى نفخة الفزع، ثم نفخة الفناء، ثم نفخة القيام من القبور.
هذه النفخات الثلاث ذكرها الله تعالى في القرآن: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [النمل:٨٧]، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:٦٨]، وعلى هذا فإن الله عز وجل يقول: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [قّ:١٩] {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [قّ:١٩ - ٢٠]، اليوم الذي وعد الله عز وجل هؤلاء الناس.
يروى أن عائشة رضي الله عنها لما حضرت أبا بكر الوفاة كانت عنده، فلما غشي عليه تمثلت بقول الشاعر: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر أي: حشرجت الروح عند الخروج، فقال رضي الله عنه: يا ابنة الصديق! لا تقولي هكذا، ولكن قولي كما يقول الله عز وجل: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:١٩ - ٢١]، سائق يسوقها إلى المحشر من الملائكة، (وشهيد): يشهد على أعمالها، وقد كان في الدنيا يحصي أعمالها وحسناتها وسيئاتها، ولذلك فإنه يشهد عليها يوم القيامة، ماذا يقال له وهو في هذا الموقف الحرج الشديد؟ {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق:٢٢]، كنت في الدنيا مشغولاً بمالك، وبعمائرك، وبسلطانك، وبمركزك، وبترفك ولهوك ولعبك ومعصيتك، كنت في غفلة فكشف عنك هذا الغطاء، فليس اليوم بينك وبين الحياة الآخرة إلا هذا الغطاء، وليس بينك وبين كشف هذا الغطاء إلا لحظة الموت؛ فإن لحظة الموت هي التي تنقلك نقلة بعيدة من الدنيا إلى الآخرة، وتزيل هذا الغطاء الذي قد وضع على وجهك؛ فأصبحت تسمع عن الحياة الآخرة لكنك لا تراها بعينيك، لكن اليوم أصبحت تراها؛ لأن بصرك اليوم حديد -حاداً قوي- فبصرك في الدنيا كان ضعيفاً لا ترى به الحياة الآخرة، لكن اليوم أصبح بصرك حاد فأصبحت ترى الحياة الآخرة، ما رأيك في هذا؟ بعد ذلك يبدأ الخصام بينه وبين الملك: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق:٢٣]، يعني: هذه سيئات هذا الرجل وهذه حسناته، هذه أعماله أمام الله عز وجل في سجلات محفوظة.
ثم يقول الله بعد ذلك: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق:٢٤]، وألقيا بألف الاثنين، أو ألقيا معناها ألقين، وهذا التساؤل من الملائكة إلى الله عز وجل {فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق:٢٤]، أول من يدخلون النار الذين يكفرون نعمة الله، ويجحدون حق الله، ويعاندون الله عز وجل ورسله وأنبياءه وأولياءه، {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق:٢٤ - ٢٦].
بعد ذلك يبدأ الخصام بينه وبين قرينه في الدنيا، سواء كان من شياطين الإنس أو شياطين الجن، يقول الله عز وجل: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [ق:٢٧]، يعني: ما أنا الذي أضللته بل هو كان ضالاً بطبيعته، ثم يرد الله عز وجل عنهم جميعاً فيقول: {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [قّ:٢٨ - ٣١].
هذا أيضاً موقف لا يجوز لنا أن نغفل عنه، بل نتصوره؛ لأنه يصور لنا ساعة الموت وساعة القدوم والصحف التي سجلت لنا أو علينا.