من هذه المواقف والمشاهد في القيامة التي تتحدث عن الجلساء، يقول الله عز وجل:{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً}[البقرة:١٦٥ - ١٦٧]، أي: يا ليت لنا رجعة إلى الدنيا، {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ}[البقرة:١٦٧].
معنى هذه الآيات: أن الناس في هذه الدنيا أتباع ومتبوعون، والأتباع: هم غالب وعامة الناس، والمتبوعون: هم قادة الكفر والضلال والانحراف والإلحاد والمعصية؛ ففي الدنيا يؤيد بعضهم بعضاً، ويدعو بعضهم بعضاً إلى الانحراف والضلال والغواية، ويقولون لهم في الدنيا: اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم، ويزينون لهم طريق الفسق والفجور والمعصية والإثم والعدوان، حتى إذا كان الموقف الأكيد الصادق يوم القيامة بين يدي الله عز وجل، يتبرأ المتبوعون من التابعين، فيتمنى التابعون أن يعودوا إلى الحياة الدنيا مرة أخرى ليتبرءوا من أولئك كما تبرءوا منهم في ذلك الموقف، والله عز وجل يقطع أسباب العودة ويقول لهم:{وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ}[البقرة:١٦٧]، أي: لا الأتباع ولا المتبوعون.
يقول الله:(وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)، أي: فعلوا المعصية والكفر والشرك والعدوان، (إذ يرونَ العذاب)، أي: عذاب النار وهم على حافة جهنم، نسأل الله العافية! (أن القوة لله جميعاً)، ليس هناك ما يخلصهم إلا رحمة الله عز وجل، (وأن الله شديد العذاب)، أي: لا يستطيع المتبوعون أن يتحملوا هذا العذاب الشديد عن التابعين كما كانوا يزعمون ذلك في الحياة الدنيا.
قال الله:(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا)، وفي قراءة بالعكس:(إذا تَبرأ الذين اتَبَعُوا من الذين اتُبعوا)، وكلا القراءتين تدل على أن العداوة قد قامت بين الصديق وصديقه، والخل وخليله على معصية الله، على الإثم والعدوان؛ بدأت العداوة وخرجت الآن، (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ) أي: رأى التابع والمتبوع العذاب، (وتقطعت بهم الأسباب)، أي: ليس هناك وسيلة للخلاص، (وقال الذين اتبعوا)، أي: المساكين الذين ما استعملوا قوتهم العقلية ولا المعايير والمقاييس الحقيقية، وإنما كانوا في ذيل القافلة، ما دام هؤلاء مسئولون فهم يسيرون وراءهم دعاة الضلال يقودونهم إلى جهنم وهم يركضون وراءهم، دعاة الضلال يزينون لهم الخبيث وهم يركضون وراءهم، لماذا؟ لأن دعاة الضلال قد استغلوا كل وسائل الإعلام العالمي، فصاروا يخادعون الناس، فمرة يتكلمون على الإسلام بأنه تخلف ورجعية، ومرة يتكلمون عن الحجاب بأنه تقوقع وانحراف وتخلف، ومرة يتكلمون عن الحدود بأنها وحشية لا تصلح لهذا الزمان ومرة ومرة إلخ، حتى انخدع الناس بهذا السراب، فصاروا يسيرون معهم ويقدمونهم، ثم في ذلك اليوم يندمون على ما فعلوا في الحياة الدنيا.
هذا مشهد من مشاهد القيامة كأننا نشاهده الآن أمام أعيننا، وكأننا نرى أمماً عظيمة تشبه السراب في كثرته وقلة أهميته تتبع أمماً أخرى كانت معها أدلة كاذبة، وكانت معها أقوام منحرفة؛ فيسير هؤلاء وراء أولئك، حتى إذا كان يوم القيامة، وبدت المعايير الحقيقية؛ حينها يتبرأ الذين اتُبعوا من الذين اتبَعوا، ويتمنى التابعون أن يعودوا إلى الدنيا ولو لحظة واحدة من أجل أن يتبرءوا من المتبوعين، ومن أجل أن يسيروا في فلك وخط المؤمنين المصلحين، ولكنهم لا يستطيعون ذلك في ذلك اليوم؛ لأن الله عز وجل حكم على من وصل إلى الحياة الآخرة ألا يعود الدنيا مرة أخرى، ولذلك يقطع الله تعالى أمل هؤلاء ويقول:(وما هم بخارجين من النار)، فيقطع آمالهم، ويثبت خلود هؤلاء وأولئك في النار.