[المبادرة بالتوبة والاستغفار من الذنوب والمعاصي]
ثم بين آخر عنصر من عناصر طريق الجنة فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:١٣٥]، والفاحشة: هي ما عظمت من الذنوب، وظلم النفس معناه: مطلق المعاصي.
وعلى هذا: فإن المسلم عليه أن يكون بعيداً عن هذه الأمور التي تحول بينه وبين ربه سبحانه وتعالى، لكن لما فطر الإنسان بطبيعته وجبلته على الميل إلى ملاذ الحياة الدنيا، ولربما تكون مما حرم الله؛ فقد أمر الله عز وجل بسرعة المبادرة بالتوبة والإنابة، وبين الله في مكان آخر أن هذا الإنسان لو ملأ الأرض ذنوباً وبلغت ذنوبه عنان السماء، ثم تاب وأناب إلى ربه؛ فإن الله تعالى يقبل التوبة عنه، ويعفو عن سيئاته، يقول تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:٥٣]، بشرط: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:٥٤].
والإنسان بطبيعته وفطرته البشرية قد يميل إلى أمور قد تكون محرمة، وقد يغفل الإيمان ساعة من الزمن فيقع في شيء مما حرم الله، فهذه فطرة البشرية لا يسلم منها إلا من عصمه الله عز وجل، وعلاجها سرعة التوبة والإنابة إلى الله عز وجل، وهنا يقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً) و (إذا) للمفاجأة والسرعة، (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أي: ما دون الفاحشة، (ذَكَرُوا اللَّهَ) أي: ذكروا ساعة الوقوف بين يدي الله عز وجل، وساعة الحساب، وذكروا ظلمة القبر، ويوم يقفون أمام الميزان الذي توزن فيه الحسنات والسيئات، إذا هموا بظلم مخلوق من المخلوقين أو بظلم النفس أو التعدي على أمر مما حرمه الله أو ما أشبه ذلك؛ فإنهم يبادرون بالتوبة والإنابة، وقد وعد الله عز وجل مثل هؤلاء أن يبدل لهم السيئات إلى حسنات، فقال: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:٧٠]، ويقول جمهور المفسرين: كل سيئة يقترفها هذا الإنسان تتحول إلى حسنة في سجل أعماله، وليس معنى ذلك التشجيع على فعل السيئات ثم تركها، ولكن معنى ذلك: سرعة المبادرة بالتوبة والإنابة إلى الله عز وجل، وهو ما أشار الله تعالى إليه في آخر سورة الأعراف: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:٢٠١].
وعلى هذا: فإن المسلم عليه إذا فعل سيئة أن يغلب جانب الخوف، وإذا فعل طاعة أن يغلب جانب الرجاء، وعليه أن يجمع بين الرجاء والخوف في آن واحد، كما ذكر ابن غزوان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال: (ولقد ذكر لنا أن الحجر يرمى من شفير جهنم ما يبلغ لها قعراً، والله لتملأن! والله لتملأن! ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصارع الجنة كما بين مكة وهجر -أي: عرض الجزيرة العربية- وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام) أي: من كثرة الداخلين.
هنا يجمع الإنسان بين الخوف والرجاء، وفي ساعة الاحتضار يغلب الإنسان جانب الرجاء بالله تعالى فلا يموت إلا وهو يحسن الظن بالله سبحانه وتعالى.
المهم أيها الإخوة! هذه الآية تجعل من صفات المؤمنين أهل الجنة أنهم يبادرون بالتوبة، فلا يفرطون ولا تغرهم الحياة الدنيا، ولا يغرهم الشباب والقوة والفتوة، ولا تغرهم الصحة والعافية، بل هم دائماً على خوف واستعداد للموت قبل نزوله، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى حدد أجلين للتوبة: الأجل الأول: هو الغرغرة وبلوغ الروح الحلقوم، وهو ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، أول ما تبلغ الروح الحلقوم، وهذا أجل بعيد بالأصل ولكنه قريب؛ لأن الإنسان لا يدري متى يقع الأجل.
الأجل الآخر: طلوع الشمس من مغربها بالنسبة لعامة الناس، وهو ما أشار الله عز وجل إليه بقوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:١٥٨]، ويقول الله عز وجل عن الأول: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء:١٧] فأبشروا أيها الإخوة! فإن معنى (جهالة) أي: في غفلة، وليس معناها في جهل؛ لأن الجاهل لا يؤاخذ على أي سيئة من سيئاته، ثم حدد الأجل وقال: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)، وأبشروا أيضاً أيها الإخوة؛ فإن القريب ليس معناه: في الحال، ولكن معناه: ما قبل الموت، بدليل قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:١٨].
المهم أيها الإخوة! أن يكون هذا الإنسان دائماً وهو يقترف الذنب -إذا قدر له أن يقترف ذنباً في غفلة عن دينه- أن يقترف هذا الذنب وهو خائف، أما أن يفعل هذا الذنب وهو يضحك، فإن المثل يقول: (من فعل الذنب وهو يضحك دخل النار وهو يبكي).
ولذلك فإن المؤمن إذا فعل ذنباً ولو كان صغيراً أصبح على رأسه كجبل، والآخر البعيد -نعوذ بالله من حاله- إذا فعل الذنب رآه كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: (كذباب وقع على وجهه فقال به هكذا) أي: تساهله من بهذا الذنب، والتساهل بالذنب يعتبر ذنباً.
وهذه الذنوب تختلف بحجمها وفي أصلها وفي أهلها، فهناك ذنوب بين العباد مع الله عز وجل لا تصل إلى درجة الشرك، لا يعبأ الله عز وجل بها يوم القيامة، وهناك ذنوب الشرك -نعوذ بالله- لا يغفر الله عز وجل منها شيئاً يوم القيامة، وهناك غير هذين الاثنين، وهي المظالم والتعدي على حرمات الناس وأموالهم وأعراضهم ودمائهم وحريتهم، وهذا هو الديوان الذي لا يترك الله عز وجل منه شيئاً يوم القيامة، وهذا هو الذي يقتص له يوم القيامة بالحسنات والسيئات، وصاحبه هو المفلس الذي يأتي يوم القيامة مفلساً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام فيأتي وقد ضرب هذا، وظلم هذا، وأخذ مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار).
فهذه هي حياة الإنسان، وهذا هو طريق الجنة، فعلى المسلم أن يبادر في سلوك طريق الجنة.