[حماية الفضيلة ومحاربة الرذيلة بتشريع حد القذف]
بعض الناس عنده غيرة، ولا يلام على هذه الغيرة، لكن قد تصل هذه الغيرة إلى القذف بدون دليل، وهذا أمر خطير لا يقل خطورة عن أمر الزنا، كأن يقول: إن فلانة زنت، أو فلاناً زنى، وليس عنده دليل، فالله تعالى وضع عقوبة للقاذف تساوي عقوبة الزاني سوى عشرين جلدة فقط.
إذاً: القاذف عقوبته ثمانون جلدة، والزاني مائة جلدة، بل قد تكون عقوبة القاذفين مضاعفة لو أن ثلاثة شهدوا أن فلاناً زنى وليس عندهم رابع يشهد، في هذه الحالة كل واحد منهم يجلد ثمانين جلدة، يكون المجموع مائتين وأربعين جلدة على هؤلاء الثلاثة، أكثر من عقوبة الزاني بما يساوي مرتين ونصف.
إذا: ً حتى لا تنطلق الألسن بالحديث في الأعراض بدون بينة، وضع الله تعالى عقوبة القاذف بجوار عقوبة الزاني، ووضع عقوبة يقارب مقدارها مقدار عقوبة الزاني.
القذف معناه: الرمي، والمراد به هنا القذف بالزنا نعوذ بالله، والقذف من أكبر المعاصي عند الله عز وجل؛ لأن الله وضع له حداً، والكبيرة هي التي لها حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة.
حرم القذف لأسباب كثيرة: السبب الأول: أنه ينفر الناس من المرأة التي قذفت، بحيث لا أحد يتزوجها في يوم من الأيام؛ ولذلك شدد الله تعالى في هذا الأمر وخص المرأة بذلك قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:٤] مع أن الرمي للمحصنات وللمحصنين الرجال على حد سواء كله محرم وكل فيه حد.
إن إشاعة الفاحشة في المجتمع تسهل الجريمة، فلو بدأ الناس يتحدثون: فلان زان، وفلانة زانية، يصبح الحديث عن الزنا أمراً ميسوراً، ولذلك فإن المسرحيات التي تنشر الآن أمام المسلمين في التلفاز وفي الإذاعة خطيرة جداً؛ لأنها تأتي بكلمات كلها عشق وغرام، ولأنها تمهد السبيل للفاحشة، لا سيما حينما تظهر الصورة وفيها رجل مختلط بامرأة، وأسوأ من ذلك ظهرت الصورة لرجل من الصالحين أو من التابعين وبجواره زوجته سافرة تختلط بالرجال، فهذا تشويه لتاريخ الإسلام، إضافة إلى أن فيه إشاعة للفاحشة فهو لا يقل جريمة عن القذف، وكذلك الحديث في المسلسلات التي تنتشر اليوم في بيوت الناس وفي أسواق الناس عبر وسائل الإعلام الحديثة، كلها في الحقيقة تمهد السبيل للجريمة، فالذي شرع الحد سبحانه وتعالى لمن يقذف امرأة محصنة، هو أيضاً يعاقب هؤلاء الذين ينشرون الفاحشة ويريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
قوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) المحصن هو العفيف، والمحصنات هن العفيفات، لماذا سمي الرجل العفيف محصناً، وسميت المرأة العفيفة محصنة؟ كأنهم ركبوا حصاناً، والجندي إذا ركب الحصان صعب قتله، أو دخل في حصن فإذا دخل في حصن صعب قتله، وهي محصنة عفيفة محاطة بسياج منيع من حفظ الله عز وجل، ومع ذلك يقال: إنها زانية، إذاً: هذا خطير، فالله تعالى جعل عقوبة لمن يرمي المحصنة أو يرمي المحصن.
الله سبحانه وتعالى ذكر هنا المرأة ولم يذكر الرجل أبداً، ما قال: والذين يرمون المحصنات والمحصنين، وإنما قال: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) دخل الرجل بطريق القياس والتبعية؛ لأن الرمي بالنسبة للمرأة أخطر من الرجل، لو قال واحد: بنت فلان زانية، لا يمكن لواحد من الناس أن يفكر بالزواج من هذه يوماً من الأيام، ولا يمكن لأي واحد من الناس أن يستعيد الثقة في هذه المرأة، لكن لو قال: فلان زان، قد ينسى عبر الأيام وكل الناس يزوجونه.
إذاً ذكر الله تعالى المحصنات وجعل الرجل تابعاً للمرأة في هذا الحكم؛ لأن حساسية وشفافية عرض المرأة أهم وأشد من عرض الرجل.
قوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) أي: لابد من أربعة شهود، فلو جاء شخص وقال: رأيت بنت فلان تزني نعوذ بالله، نقول: بقي ثلاثة يشهدون مثل شهادتك، وإلا تجلد أنت حد القذف، ويروى: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاءه ثلاثة فشهدوا على فلان من الناس بالزنا، فقال: إما أن تأتوا برابع وإما أن أجلد كل واحد منكم ثمانين جلدة، وقرأ عليهم هذه الآية).
ولكن ليس معنى ذلك يا إخوان أننا إذا رأينا الفاحشة في بيت من بيوت الناس نعوذ بالله، أو في بؤرة فساد أن نتركها تقديراً لهذا، ولا نقول: في هذا البيت فلانة زنت أو فلان زنى، وإنما نقول: في هذا البيت شبهة، وندعو الصالحين وأصحاب الحل والعقد والمسئولين ونقول: تفضلوا هذا البيت تدور حوله شبهة، وحينئذ نستطيع أن نوفق بين هذه الآية الكريمة وبين الواقع الذي أصبح كثير من الناس يتحاشى أن يكشف بؤرة فساد تفسد المجتمع؛ خوفاً من أن يقع في وعيد هذه الآية، فلو قال: هذا البيت مشبوه، فهو غير قوله: فلان من الناس زنى.
إذاً: يجب على كل واحد من الناس إذا شك في سلامة بيت من بيوت المسلمين، أن يدعو السلطة والمسئولين وأصحاب الحل والعقد، من أجل أن يكتشفوا بؤرة الفساد التي يتوقعها داخل هذا البيت، لكن عليه أن يتثبت وعليه أن يتأنى في هذا الأمر، وإذا تأكد من صحة هذا الأمر فيجب على السلطة أن تتعاون معه، ولكن حينما تتهاون السلطة في مثل هذا الموضوع تعتبر خائنة لهذه الأمانة التي استرعاها الله عز وجل عليها.
يقول الله عز وجل: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) يعني: اضربوا كل واحد منهم ثمانين جلدة وليس كلهم تقسم عليهم ثمانين جلدة.
قوله: {اجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:٤]، انظر يا أخي! الزنا فيه عقوبة واحدة، لكن إشاعة الفاحشة في المجتمع فيه ثلاث عقوبات: الأولى: جلد كالزنا.
الثانية: إسقاط الشهادة: (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا).
(أبداً) هنا ظرف زمان أي: مدى الحياة إلا في حالة واحدة، إذا ظهر أنه تاب من هذا الذنب الذي عمله، فإنه تقبل شهادته.
الثالثة: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:٤] أي: يعتبر من الفاسقين، يقال: الذي شهد على فلانة أو فلان بالزنا وهو ليس بصادق أو لم يثبت على ذلك يسمى فاسقاً في المجتمع.
والفاسق هو المتمرد على طاعة الله عز جل.
قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:٥]، فإذا تاب الإنسان قبلت شهادته، وانتفى عنه وصف الفسق، لكن لا يسقط حد القذف أبداً ولو تاب الإنسان؛ لأن حد القذف لله سبحانه وتعالى وللإنسان المقذوف، ويغلب فيه جانب حق الله عز وجل فلا يسقط.
(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا) (تابوا) أي: بعد الفسق.
(وأصلحوا) أي: ظهرت علامات الإصلاح والتوبة، لكن لو قال: أنا تائب، لا نقبل توبته حتى نعرف أنه أصلح العمل، وأنه غير المنهج في قذف الناس بغير حق.
(فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تبين لنا أنه لا يسقط حد القذف وإنما يسقط رد الشهادة والفسق؛ لأن مغفرة الله عز وجل للأمور المعنوية، والأمور المعنوية هي الفسق وسقوط الشهادة، أما بالنسبة للحق المشترك بين الله عز وجل وبين الإنسان وهو الجلد، فهذا لا يسقط بأي حال من الأحوال.