للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[السبب الأول: الثبات وعدم الفرار]

أول هذه الأسباب: الثبات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال:٤٥] أي: إذا قاتلتم جماعة من الكافرين {فَاثْبُتُوا} [الأنفال:٤٥].

والثبات: حسي ومعنوي، والأمر بالثبات في الآية يشمل الأمرين جميعاً: الثبات الحسي؛ والثبات المعنوي.

أما الثبات الحسي فهو: ما نعرفه في أحكام الشرع من عدم الفرار عند الزحف، والفرار عند الزحف من الكبائر العظام عند الله عز وجل؛ لأنه يؤدي إلى أن يختل نظام الجيش المسلم، فيشجع -بفراره- جزءاً منهم على الفرار، ويبقى جزء منهم يتعرض للفناء، كما أن العدو أيضاً يطمع في هزيمة المسلمين حينما يفر منهم من يفر من الزحف، فالله سبحانه وتعالى الذي شرع حد المرتد عن الإسلام -لأنه يطعن في الإسلام بدخوله فيه ثم خروجه منه- هو الذي حرم الفرار من الزحف؛ لأن ذلك يعني أن الجيوش الإسلامية أصبحت ضعيفة هزيلة لا تستطيع أن تقف أمام عدوها، ولذلك كان الفرار من الزحف من الكبائر.

وهناك آية أخرى قد يفهم بعض الناس أن بينها وبين هذه الآية تعارضاً، وهي قوله تعالى في أول السورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال:١٥ - ١٦] فالأمر في تلك الآية مطلق (فاثتبوا)، بينما هذه الآية جوزت التولي من موقع المعركة في حالتين: ١ - أن يكون متحرفاً لقتال: فالمقاتل له أن يبحث عن مكان وموقع أحسن لمواجهة العدو، وهذا ما يسمى بـ (تكتيك القتال).

٢ - أن يكون متحيزاً إلى فئة: أي: يرى جماعة من المسلمين قد أحاط بها العدو، فيريد أن ينصر هذه الجماعة من المسلمين.

وعلى هذا نقول: تحمل تلك الآية المطلقة على الآية المقيدة: أي: (فاثبتوا) إلا في تلك الحالتين اللتين ذكرهما الله تعالى بقوله: {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال:١٦].

أما أن يكون المسلم جباناً في نفسه، فما أن يدخل المعركة، ويرى العدو أمامه حتى يفر منه كاشفاً بذلك عورة المسلمين، فذلك أمر محرم شرعاً، وهو أمر خطير يعطي صورةً سيئة عن الإسلام، ويعرض الأمة المسلمة إلى الفناء والدمار، فيتسلط العدو على البقية الباقية التي لم تفر فلا تستطيع المقاومة؛ لأن نظام المعركة قد اختل.

لكن هذا الأمر بحرمة الفرار مقيد بمقاييس معينة، وهذه المقاييس نجدها في قوله تعالى في آخر السورة: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال:٦٥].

ومعنى ذلك: أنه لا يجوز الفرار من الزحف ما دامت نسبة المسلمين إلى الكفار قد بلغت واحداً إلى عشرة، ثم نُسخ هذا، وخفف عن الأمة الإسلامية هذا العدد وهذا المقياس، فألزم الله عز وجل أن يقف المسلم أمام اثنين والمائة أمام مائتين، وذلك في قوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [الأنفال:٦٦].

ومعنى ذلك: أن الأمر الذي استقر عليه الإسلام أن عدد الكافرين إذا كان ضعف عدد المسلمين فلا يجوز الفرار من الزحف، وإذا زاد العدد أكثر من ذلك، فللمسلمين أن ينسحبوا بطريقة منظمة تحددها قيادة الجيش، كما فعل خالد بن الوليد رضي الله عنه في يوم مؤتة حينما تسلم قيادة الجيش بعد مقتل القادة الثلاثة، عندها وجد خالد أن جيش المسلمين بأعداده القليلة لا يقوم لجيش الروم بأعداده الهائلة، فسارع بإعادة تنظيم جيشه، وانسحب بالمسلمين بطريقة منظمة؛ ليحافظ على بقية الجيش الإسلامي، وهذا لا يعد فراراً من الزحف.

وعلى كل فهذا الأمر مقرر في كتب الفقه، بل إن له أدلته من نصوص القرآن، لكن هناك ثبات يغفل عنه الناس، وأرى الحاجة إليه ملحة جداً في أيامنا الحاضرة: وهو ثبات القلوب والأفئدة ثبات العقيدة، فلربما يعتمد الناس على غير الله، ولربما تعلقت قلوبهم بغير الله، وتزعزعت عقائدهم وانهارت معنوياتهم إذا واجههم عدو متسلط وطاغية من طغاة الأرض، وعاث جنوده في الأرض فساداً، وداسوا التوراة والإنجيل والقرآن بأقدامهم، وهذا منهج من مناهج مبدئهم، ولا عجب! وهو من المبادئ المتبعة لدى هذه الأحزاب التي تحاربنا اليوم.

وتعلق الناس بغير الله في مثل هذه الأيام هو الشيء الذي أصبحنا نخاف منه اليوم؛ لذلك نرى أن كثيراً من الناس تعلق بغير الله عز وجل، واعتمد على القوة الكافرة، واعتبر أن القوة البشرية هي النصر، لم يقل: إنها سبب النصر، وإنما قال: هي النصر! وحقيقة الأمر أن هذه القوى هي أسباب، وإذا أراد الله تعالى أن تكون سبباً للنصر كانت كذلك، وإذا أراد الله تعالى أن يبطل مفعولها فلن يكون لها أثر في ترجيح كفة المعتمدين عليها؛ لأن كل شيء بيد الله عز وجل، ولا يمكن أن يكون النصر بيد الخلق، والله تعالى يقول: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:١٢٦].

ويظهر ذلكم النصر الإلهي جلياً في معركة بدر إذ كان عدد المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر مقاتلاً، يلاقون ألفاً من الكافرين، فلم يكن هناك تكافؤ في العدد ولا في العدة، فالمسلمون لا يملكون من السلاح ما يكفيهم، فما لبثت أن جاءت أوامر الله سبحانه وتعالى التي أصدرها للملائكة: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:١٢] فجاء الخبر أولاً: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:٩]، فما معنى مردفين؟ معناه: أن كل واحد من الملائكة أردف معه مجموعة، حتى بلغت هذه المجموعة خمسة آلاف من الملائكة كما أخبر الله عز وجل في سورة آل عمران: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:١٢٥] فكانت الملائكة في بدر خمسة آلاف؛ وكل واحد من هؤلاء الملائكة مسوم، وموجه من عند الله، ومزود بالسلاح، وكان جبريل أحد هؤلاء الملائكة، وهو -كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم- له ستمائة جناح، ويستطيع أن يحمل الأرض كلها بجناح من أجنحته ويقلبها، كما فعل بديار قوم لوط، لكن الله جلت عظمته أراد أن يكون ذلك زيادة في التنكيل بالمشركين، وشرحاً لصدور المؤمنين.

وما جاء هؤلاء الملائكة المسومون بالنصر، إنما قال الله تعالى عنهم: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} [آل عمران:١٢٦] فكان نزولهم مجرد بشرى، ولكي تطمئن القلوب، ولكي يستبشر الناس بأن النصر قد أقبل، وحتى ينام المسلمون في تلك الليالي آمنين مطمئنين وهم ينتظرون موقعة بدر، ومن أجل ألا تؤرقهم هذه الأحداث وتزعجهم، فالنصر ليس من هؤلاء الملائكة الخمسة الآلاف، إنما النصر يأتي من عند الله، ولذلك قال الله تعالى عن هؤلاء الملائكة الألف المردفين الذين تعدادهم خمسة آلاف وجبريل معهم: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال:١٠].

ومعنى ذلك: لو جاءت جنود الأرض كلها لتحمي بقعة من الأرض -ونحن لا نناقش مسألة جواز الاستعانة بالكفار ودخولهم جزيرة العرب؛ لأن هذا الأمر أصبح واقعاً- فلن تستطيع أن تأتي بالنصر، فالذي يأتي بالنصر هو الله عز وجل، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال:١٠]، (وما النصر إلا) تفيد في لغة العرب الحصر، بمعنى أنه يستحيل أن يأتي النصر حتى من هؤلاء الملائكة، وليس هؤلاء الذين جيء بهم ليدافعوا عن بلاد المسلمين أقوى من الملائكة.

وقبل نهاية الكلام عن السبب الأول من أسباب النصر أؤكد على أنه لابد من فهم معنى قوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال:٤٥] لابد أن تثبت العقيدة، وأن تستقر النفوس إلى أن النصر لا يأتي إلا من عند الله عز وجل، وأن هذه الأسباب لا تغني من الله عز وجل شيئاً، ولذلك يقول العلماء: الأخذ بالأسباب مع الاعتماد على المسبب سبحانه وتعالى عقل، والاعتماد على الأسباب وحدها كفر بالله تعالى، وإلغاء الأسباب نقص في العقل، معنى ذلك: أنه لابد من الأخذ بالأسباب بشرط أن يقترن بها الاعتماد على الله سبحانه وتعالى.

فواجبنا الذي يحتمه علينا ديننا هو: الثبات في مثل هذه المواقف الرهيبة التي تعيشها أمتنا اليوم: ثباتاً في الميدان عند ملاقاة العدو، وعدم الفرار من الزحف، وثباتاً في العقيدة والنفس بحيث يشعر هذا المسلم أن النصر لا يأتي إلا من عند الله سبحانه وتعالى.

وحين ينزل الله نصره فإن أكثر ما يخشى على الناس هو اهتزاز عقيدتهم، فيؤدي ذلك إلى أن تتعلق النفوس بهؤلاء الكفرة الذين استعان بهم المسلمون، ثم تزيد الأمور خطورة، ويُنسى مالك النصر وواهبه وهو الله سبحانه وتعالى الذي يُنزل النصر.

فمن لوازم اليقين بالله أن يتعلق القلب بالله، وتترسخ الثقة به عز وجل قبل المعركة وبعد المعركة، وحتى نلقى الله سبحانه وتعالى، ولابد أن يكون ثبات العقيدة في القلب والجنان ثباتاً يوافقه القول والعمل؛ حتى لا نطلب النصر -دائماً وأبداً- إلا من عند الله سبحانه وتعالى.