إذاً: هنا تكون الاستقامة في مثل هذه الظروف، أما الانسجام مع هذه المغريات والشهوات التي ابتلي بها البشر في هذا العصر، فهي أخطر شيء على حياة الأمم، {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}[هود:١١٢] حتى الاستقامة لها ضوابط أيضاً ومعالم، {وَلا تَطْغَوْا}[هود:١١٢] فقد تؤدي الاستقامة إلى الطغيان وتعدي الحدود، وأنا قلت لكم: إن دين الإسلام دين محصور في حلقة مقفلة، حتى الزيادة فيها لا تجوز، سواء كان في أمر العبادات أو في أي أمر من الأمور الأخرى، ولذلك قال الله تعالى:{وَلا تَطْغَوْا}[هود:١١٢].
ولذلك ما غضب الرسول صلى الله عليه وسلم كغضبه يوم جاءه ثلاثة نفر ذات يوم إلى داره، فسألوا عن عمله في السر عليه الصلاة والسلام، فأخبرتهم إحدى زوجاته؛ فتقالوا عمل الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد، وقال الثاني: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الثالث: أنا لا أتزوج النساء، يريدون أن يغلوا في هذا الدين.
نحن نتكلم عن الغلو، وإن كنا لا نعتبر في الساحة المعاصرة شيئاً من هذا الغلو إلا نادراً جداً في مواطن متخلفة، وإن كان يوصف المتدينون بعصرنا الحاضر مع الأسف بالتطرف والتخلف والرجعية إلى غير ذلك من الألقاب، نحن لا نعترف بها، لكن لا بد أن نتحدث أيضاً عن هذا الغلو في الدين؛ لأن الله تعالى يقول:(ولا تطغوا) حتى الطغيان في العبادة وتجاوز الحد في العبادة أمر محرم لا يجوز.
فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بكلام هؤلاء الثلاثة غضب غضباً ما غضب مثله أبداً؛ فصعد المنبر، وحمد الله وأثنى عليه، وقال عليه الصلاة والسلام:(أما بعد: فإني والله أتقاكم لله وأخشاكم له، وإني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).