[قيام الليل]
ويقول الله عز وجل في صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:٦٤]، ومعنى (يبيتون): يقضون الليل.
والسجود معناه وضع الوجه -وهو أعظم الأجزاء في الإنسان- على الأرض ذلة وخضوعاً لله عز وجل، ولذلك السجود يعتبر أفضل العبادات، كما دل على ذلك الحديث الذي رواه ربيعة بن كعب رضي الله عنه، قال: (كنت كل ليلة آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوئه)، والوضوء -بفتح الواو- الماء الذي يتوضأ به، (فجئته بوضوئه ذات ليلة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل يا ربيعة! فقال ربيعة: قلت: يا رسول الله.
أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أوغير ذلك يا ربيعة؟! قال: قلت: هو ذاك يا رسول الله! قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود)، فالسجود هو أعظم العبادات التي يتقرب بها الإنسان لله عز وجل، ولذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإكثار من الدعاء في السجود فقال: (وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء؛ فقمن -أي: حري- أن يستجاب لكم).
إذاً هؤلاء المؤمنون عباد الرحمن يقضون الليل ساجدين وقائمين لله عز وجل إذا أوى الناس إلى فرشهم وتمتعوا بالفرش الرقيقة وتمتعوا بالحسناوات من النساء ولذ النوم، وقد كان أحدهم يمسح بيده الفراش ويقول: والله إنك فراش لين رقيق، ولكن فراش الجنة ألين منك.
فيقوم راكعاً وساجداً بين يدي الله عز وجل، ودموعه تسيل على لحيته إلى الأرض من خشية الله عز وجل.
والعجيب أنه في هذه اللحظات التي تجد فيها ذلك الإنسان -لاسيما في جوف الليل الآخر حينما ينزل ربنا عز وجل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر ويقول: (من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟) - تجد ذلك الإنسان فيها راكعاً وساجداً بين يدي الله عز وجل تجد أقواماً ما زالوا مكبين على المعصية وعلى البعد عن الله عز وجل، حتى في جوف الليل الآخر الذي ينزل فيه ربنا إلى سماء الدنيا!! إذاً هناك فرق بعيد بين عباد الله عز وجل وعباد الشهوات وعباد المعاصي والهوى والشيطان.
وهؤلاء الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً ليس معناه أنهم يصلون الليل كله، فقد أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيام جزء من الليل وقال: (أفضل الصلاة صلاة داود)؛ لأنه كان ينام ثم يصلي ثم ينام؛ ينام نصف الليل، ثم يصلي ثلثه، ثم يرقد سدسه، فيخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أفضل الصلاة هي صلاة داود عليه الصلاة والسلام.
ومعنى (يبيتون) أي: يقضون أكثر الليل.
وهؤلاء هم الذين يقول الله عز وجل عنهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:١٦]، ومعنى (تتجافى) أي: تتنحى.
فكان أحدهم إذا وضع جنبه على الفراش كأن الفراش يرفض هذا الجنب؛ لئلا ينام، ليقوم يقضي شيئاً من الليل ركوعاً وسجوداً وقياماً لله عز وجل.
فما هو الفرق بين هؤلاء وبين أقوام يقضون الليل كله أو حتى الهجيع الأخير من الليل أمام الأفلام والمسلسلات والأغاني والمحرمات، وربما ما هو أكبر من ذلك، ثم إذا بأحدهم ينام ملء عينيه ولا يستيقظ إلا ضحىً، قد نام حتى عن صلاة الفجر، وهذا هو ما نخشاه على هذه الأمة في هذا الزمن الذي أرغد الله عز وجل عليها العيش فيه، وأتم عليها النعمة، ولذلك نجد فرقاً بعيداً في حالنا اليوم وحالنا منذ سنوات، فقد كنا منذ زمن لا يجد أحدنا لقمة العيش إلا وهو يكد النهار كله، لكن ما كان أحدنا يتخلف عن صلاة الفجر أبداً، بل كان منا الراكع والساجد في الثلث الأخير من الليل، فلما أتم الله علينا نعمته، وأرغد لنا في العيش، وفجر لنا الخيرات من وراء آلاف الأقدام، وأصبحنا ملوك الدنيا في بلادنا وداخل بيوتنا، وأصبح العيش رغداً، إذا بنا لا نجد في صلاة الفجر إلا النزر القليل من عباد الله عز وجل، فهذه مصيبة، وهذه بلية، وكم هم الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً من بين الذين يصلون الفجر مع المسلمين؟ وما علم هؤلاء عظمة صلاة الفجر وأهميتها، نسو أن الله تعالى أثنى على صلاة الفجر في قوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:٧٨]، وما قال: (وقرآنِ الفجر) بكسر (قرآن)، والقاعدة النحوية أن يقال: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وقرآنِ الفجر.
لأن الواو عاطفة، لكن يقول العلماء: إن الله عز وجل قال: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) أي أنه مقطوع عما قبله، أي: وأمدح قرآن الفجر.
أي: صلاة الفجر، لماذا؟ قال: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:٧٨]، ومعنى (مشهوداً) ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: (تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار)، فقد جعل الله عز وجل لكل واحد ملكين في الليل وملكين في النهار يكتبون الحسنات والسيئات، ويجتمع الأربعة الملائكة في صلاة العصر وفي صلاة الفجر هبوطاً وصعوداً، فيصعد الذين كانوا فينا فيسألهم الله عز وجل: (كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وفارقناهم وهم يصلون)، ولذلك نقول: إن صلاة الفجر هي أعظم الصلوات الخمس، فالله تعالى مدحها وسماها قرآناً فقال: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ)؛ لأنها تطول فيها القراءة، فالقراءة في صلاة الفجر أطول من أي قراءة في صلاة أخرى، فمدح الله عز وجل صلاة الفجر، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تجتمع في صلاة الصبح وصلاة العصر.
إذاً: عار على مسلم أن يسهر أول الليل على معصية الله لينام في آخر الليل عن فريضة الله عز وجل، لينام في وقت ينزل الله عز وجل فيه نزولاً يليق بجلاله وكبريائه وعظمته إلى السماء الدنيا ويقول: من يدعوني؟ من يسألني؟ من يستغفرني؟ والناس نيام، ثم إذا بهذا النوم يمتد إلى أن تطلع الشمس، أو بعد طلوع الشمس، فتضيع صلاة الفجر التي يقول الله عز وجل عنها: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:٧٨].