للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ، إِذْ قَالُوا: مَتى نَصْرُ اللَّهِ فَيَكُونُ كَلَامُهُمْ قَدِ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ: مَتى نَصْرُ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَوْلًا لِقَوْمٍ مِنْهُمْ، كَأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: مَتى نَصْرُ اللَّهِ رَجَعُوا/ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُعْلِي عَدُوَّهُمْ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ فَنَحْنُ قَدْ صَبَرْنَا يَا رَبَّنَا ثِقَةً بِوَعْدِكَ.

فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ يُوجِبُ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ لَحِقَهُ شِدَّةٌ أَنْ يَعْلَمَ أَنْ سَيَظْفَرَ بِزَوَالِهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ ثَابِتٍ.

قُلْنَا: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ خَوَاصِّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَامًّا فِي حَقِّ الْكُلِّ، إِذْ كُلُّ مَنْ كَانَ فِي بَلَاءٍ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مَنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَتَخَلَّصَ عَنْهُ، وَإِمَّا أَنْ يَمُوتَ وَإِذَا مَاتَ فَقَدْ وَصَلَ إِلَى مَنْ لَا يُهْمِلُ أَمْرَهُ وَلَا يُضَيِّعُ حَقَّهُ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ النَّصْرِ، وَإِنَّمَا جعله قريبا لأن الموت قريب.

[[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٥]]

يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥)

اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي بَيَانِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَكُونَ مُعْرِضًا عَنْ طَلَبِ الْعَاجِلِ، وَأَنْ يَكُونَ مُشْتَغِلًا بِطَلَبِ الْآجِلِ، وَأَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَبْذُلُ النَّفْسَ وَالْمَالَ فِي ذَلِكَ شَرَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ وَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٤٣] لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ التَّوْحِيدِ وَبَيَانُ الْوَعْظِ وَالنَّصِيحَةِ وَبَيَانُ الْأَحْكَامِ مُخْتَلِطًا بَعْضُهَا بِالْبَعْضِ، لِيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُقَوِّيًا لِلْآخَرِ وَمُؤَكِّدًا لَهُ.

الْحُكْمُ الْأَوَّلُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّفَقَةِ هُوَ هَذِهِ الْآيَةُ

وَفِيهِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:

قَالَ عَطَاءٌ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَجُلٍ أتى للنبي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ إِنَّ لِي دِينَارًا فَقَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ قَالَ: إِنَّ لِي دِينَارَيْنِ قَالَ: أَنْفِقْهُمَا عَلَى أَهْلِكَ قَالَ: إِنَّ لِي ثَلَاثَةً قَالَ: أَنْفِقْهَا عَلَى خَادِمِكَ قَالَ: إِنَّ لِي أَرْبَعَةً قَالَ: أَنْفِقْهَا عَلَى وَالِدَيْكَ قَالَ: إِنَّ لِي خَمْسَةً قَالَ: أَنْفِقْهَا عَلَى قَرَابَتِكَ قَالَ إِنَّ لِي سِتَّةً قَالَ: أَنْفِقْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ أَحْسَنُهَا.

وَرَوَى الْكَلْبِيُّ/ عن ابن عباس أن الآية نزلت عن عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا هَرِمًا، وَهُوَ الَّذِي قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَعِنْدَهُ مَالٌ عَظِيمٌ، فَقَالَ: مَاذَا نُنْفِقُ مِنْ أَمْوَالِنَا وَأَيْنَ نَضَعُهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِلنَّحْوِيِّينَ فِي (مَاذَا) قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْعَلَ (مَا) مَعَ (ذَا) بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ وَيَكُونُ الْمَوْضِعُ نصبا بينفقون، والدليل عليه أن العرب يقولون: عما ذا تَسْأَلُ؟ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي (مَا) فَلَوْلَا أَنَّ (مَا) مَعَ (ذَا) بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ لَقَالُوا: عما ذا تَسْأَلُ؟ بِحَذْفِ الْأَلِفِ كَمَا حَذَفُوهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ [النَّبَأِ: ١] وَقَوْلُهُ: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها [النَّازِعَاتِ: ٤٣] فَلَمَّا لَمْ يَحْذِفُوا الْأَلِفَ مِنْ آخِرِ (مَا) عَلِمْتَ أَنَّهُ مَعَ