للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السَّبْعِينَ»

فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُنَافِقِينَ، وَقَالَ قَوْمٌ: فِيهِ بَيَانٌ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَمْلِكُ هِدَايَةً وَرَاءَ هِدَايَةِ الْبَيَانِ، وَهِيَ خَلْقُ فِعْلِ الِاهْتِدَاءِ فِيمَنْ عَلِمَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَقِيلَ:

مَعْنَاهُ لَا يَهْدِيهِمْ لِفِسْقِهِمْ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يُسَمِّيهِمُ الْمُهْتَدِينَ إِذَا فَسَقُوا وَضَلُّوا وَفِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: لِمَ شَبَّهَهُمْ بِالْخُشُبِ الْمُسَنَّدَةِ لَا بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُنْتَفِعِ بِهَا؟ نَقُولُ لِاشْتِمَالِ هَذَا التَّشْبِيهِ عَلَى فَوَائِدَ كَثِيرَةٍ لَا تُوجَدُ فِي الْغَيْرِ الأولى: قال في «الشكاف» : شُبِّهُوا فِي اسْتِنَادِهِمْ وَمَا هُمْ إِلَّا أَجْرَامٌ خَالِيَةٌ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْخَيْرِ، بِالْخُشُبِ الْمُسَنَّدَةِ إِلَى الْحَائِطِ، وَلِأَنَّ الْخَشَبَ إِذَا انْتُفِعَ بِهِ كَانَ فِي سَقْفٍ أَوْ جِدَارٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ مَظَانِّ الِانْتِفَاعِ، وَمَا دَامَ مَتْرُوكًا فَارِغًا غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ أُسْنِدَ إِلَى الْحَائِطِ، فَشُبِّهُوا بِهِ فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْأَصْنَامُ الْمَنْحُوتَةُ مِنَ الْخُشُبِ الْمُسَنَّدَةِ إِلَى الْحَائِطِ شُبِّهُوا بِهَا فِي حُسْنِ صُوَرِهِمْ، وَقِلَّةِ جَدْوَاهُمْ الثَّانِيَةُ:

الْخُشُبُ الْمُسَنَّدَةُ فِي الْأَصْلِ كَانَتْ غُصْنًا طَرِيًّا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا، ثُمَّ تَصِيرُ غَلِيظَةً يَابِسَةً، وَالْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ كَذَلِكَ كَانَ فِي الْأَصْلِ صَالِحًا لِكَذَا وَكَذَا، ثُمَّ يَخْرُجُ عَنْ تِلْكَ الصَّلَاحِيَّةِ الثَّالِثَةُ: الْكَفَرَةُ مِنْ جِنْسِ الْإِنْسِ حَطَبٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٩٨] وَالْخُشُبُ الْمُسَنَّدَةُ حَطَبٌ أَيْضًا الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْخُشُبَ الْمُسَنَّدَةَ إِلَى الْحَائِطِ أَحَدُ طَرَفَيْهَا إِلَى جِهَةٍ، وَالْآخَرُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى، وَالْمُنَافِقُونَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُنَافِقَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ وَهُوَ الْبَاطِنُ إِلَى جِهَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَالطَّرَفُ الْآخَرُ وَهُوَ الظَّاهِرُ إِلَى جِهَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْخَامِسَةُ: الْمُعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْخُشُبُ الْمُسَنَّدَةُ مَا يَكُونُ مِنَ الْجَمَادَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ، وَالْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ لِلْمُنَافِقِينَ كَذَلِكَ، وَإِذَا كَانُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذْ هُوَ الْأَصْنَامُ، إِنَّهَا مِنَ الْجَمَادَاتِ أَوِ النَّبَاتَاتِ.

الثَّانِي: مِنَ الْمَبَاحِثِ أَنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَهُمْ بِالْخُشُبِ الْمُسَنَّدَةِ، ثُمَّ قَالَ مِنْ بَعْدُ مَا يُنَافِي هَذَا التَّشْبِيهَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ [المنافقون: ٤] وَالْخُشُبُ الْمُسَنَّدَةُ لَا يَحْسَبُونَ أَصْلًا، نَقُولُ: لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَبَّهُ وَالْمُشَبَّهُ بِهِ يَشْتَرِكَانِ فِي جَمِيعِ الْأَوْصَافِ، فَهُمْ كَالْخُشُبِ الْمُسَنَّدَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الِانْتِفَاعِ وَعَدَمِ الِانْتِفَاعِ، وَلَيْسُوا كَالْخُشُبِ الْمُسَنَّدَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاسْتِمَاعِ وَعَدَمِ الِاسْتِمَاعِ لِلصَّيْحَةِ وَغَيْرِهَا.

الثَّالِثُ: قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ وَلَمْ يَقُلْ: الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أَوِ الْمُنَافِقِينَ أَوِ الْمُسْتَكْبِرِينَ مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ؟ نَقُولُ: كُلُّ أَحَدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَامِ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ:

الْفاسِقِينَ أَيِ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ وَهُمُ الكافرون والمنافقون والمستكبرون.

ثم قال تعالى:

[سورة المنافقون (٦٣) : الآيات ٧ الى ٨]

هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (٨)

أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى بِشَنِيعِ مَقَالَتِهِمْ فقال: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ كذا وكذا: ويَنْفَضُّوا أَيْ يَتَفَرَّقُوا، وَقُرِئَ: يَنْفَضُّوا مِنْ أَنْفَضَ الْقَوْمُ إِذَا فَنِيَتْ أَزْوَادُهُمْ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: اقْتَتَلَ أَجِيرُ عُمَرَ مَعَ أَجِيرِ عَبْدِ اللَّه بْنِ أُبَيٍّ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ فَأَسْمَعَ أَجِيرُ عُمَرَ عَبْدَ اللَّه بْنَ أُبَيٍّ الْمَكْرُوهَ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ لِسَانُهُ، فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّه وَعِنْدَهُ رَهْطٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>