رَسُولِهِ مَأْمُورًا بِالْإِسْلَامِ ثُمَّ عَقِبَهُ بِكَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنِ الشِّرْكِ قَالَ بَعْدَهُ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وَالْمَقْصُودُ أَنِّي إِنْ خَالَفْتُهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ صِرْتُ مُسْتَحِقًّا لِلْعَذَابِ الْعَظِيمِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ، وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِ لَمَا كَانَ خَائِفًا.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، بَلِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَدَرَ عَنْهُ الْكُفْرُ وَالْمَعْصِيَةُ فَإِنَّهُ يَخَافُ. وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْخَوْفِ، وَمِثَالُهُ قَوْلُنَا: إِنْ كَانَتِ الْخَمْسَةُ زَوْجًا كَانَتْ مُنْقَسِمَةً بِمُتَسَاوِيَيْنِ، وهذا لا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَمْسَةَ زَوْجٌ وَلَا عَلَى كَوْنِهَا مُنْقَسِمَةً بِمُتَسَاوِيَيْنِ واللَّه أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي أَخافُ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ إِنِّيَ بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْبَاقُونَ بِالْإِرْسَالِ.
[[سورة الأنعام (٦) : آية ١٦]]
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يُصْرَفْ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ.
وفاعل الصرف على هذه القراءة والضمير الْعَائِدُ إِلَى رَبِّي مِنْ قَوْلِهِ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي [الأنعام: ١٥] وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ يَصْرِفُ هُوَ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ الْعَذَابَ. وَحُجَّةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَوْلُهُ فَقَدْ رَحِمَهُ فَلَمَّا كَانَ هَذَا فِعْلًا مُسْنَدًا إِلَى ضَمِيرِ اسْمِ اللَّه تَعَالَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي تِلْكَ اللَّفْظَةِ الْأُخْرَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِيَتَّفِقَ الفعلان، وعلى هذا التقدير: صَرْفُ الْعَذَابِ مُسْنَدًا إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَتَكُونُ الرَّحْمَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْنَدَةً إِلَى اللَّه تَعَالَى، وأما الباقون فإنهم قرءوا مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالتَّقْدِيرُ مَنْ يُصْرَفُ عَنْهُ عَذَابُ يَوْمِئِذٍ وَإِنَّمَا حَسُنَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الْعَذَابَ إِلَى الْيَوْمِ فِي قَوْلِهِ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام: ١٥] فَلِذَلِكَ أَضَافَ الصَّرْفَ إِلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ يُصْرَفُ عَنْهُ عَذَابُ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي كَوْنَ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَصْرُوفًا وَذَلِكَ مُحَالٌ، بَلِ الْمُرَادُ عَذَابُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَحَسُنَ هَذَا الْحَذْفُ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الطَّاعَةَ لَا تُوجِبُ الثَّوَابَ، وَالْمَعْصِيَةَ لَا تُوجِبُ الْعِقَابَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ أَيْ كُلُّ مَنْ صَرَفَ اللَّه عَنْهُ الْعَذَابَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَدْ رَحِمَهُ. وَهَذَا إِنَّمَا يَحْسُنُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الصَّرْفُ وَاقِعًا عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ أَمَّا لَوْ كَانَ وَاجِبًا مُسْتَحَقًّا لَمْ يَحْسُنْ أَنْ يُقَالَ فِيهِ إِنَّهُ رَحِمَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي يَقْبُحُ مِنْهُ أَنْ يَضْرِبَ الْعَبْدَ، فَإِذَا لَمْ يَضْرِبْهُ لَا يُقَالُ إِنَّهُ رَحِمَهُ. أَمَّا إِذَا حَسُنَ مِنْهُ أَنْ يَضْرِبَهُ وَلَمْ يَضْرِبْهُ فَإِنَّهُ يُقَالُ إِنَّهُ رَحِمَهُ، فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ عِقَابٍ انْصَرَفَ وَكُلَّ ثَوَابٍ حَصَلَ، فَهُوَ ابْتِدَاءً فَضْلٌ وَإِحْسَانٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا
يُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ، قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّه قَالَ وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّه بِرَحْمَتِهِ»
وَوَضَعَ يَدَهُ فَوْقَ رَأْسِهِ، وَطَوَّلَ بِهَا صَوْتَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْقَاضِي: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُعَاقَبْ فِي الْآخِرَةِ مِمَّنْ يُصْرَفُ عَنْهُ الْعِقَابُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُثَابَ وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ فِيمَنْ يُصْرَفُ عَنْهُ الْعِقَابُ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ مَنْ لَا يُثَابُ، لَكِنَّهُ يَتَفَضَّلُ عليه.