للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

التَّقْدِيمِ مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ فَرِيقٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَهُوَ قَوْلُهُ: قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ [ص: ٦٠] .

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَعَلَّقَ هَذَا الْكَلَامُ بِمَا قَبْلَهُ؟.

قُلْنَا: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْجِمَاعِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، وَالَّذِي عِنْدِي فِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ جَارٍ مَجْرَى التَّنْبِيهِ عَلَى سَبَبِ إِبَاحَةِ الْوَطْءِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: هَؤُلَاءِ النِّسْوَانُ إِنَّمَا حَكَمَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَةِ وَطْئِهِنَّ لَكُمْ لِأَجْلِ أَنَّهُنَّ حَرْثٌ لَكُمْ أَيْ بِسَبَبِ أَنَّهُ يَتَوَلَّدُ الْوَلَدُ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أَيْ لَمَّا كَانَ السَّبَبُ فِي إِبَاحَةِ وَطْئِهَا لَكُمْ حُصُولَ الْحَرْثِ، فَأْتُوا حَرْثَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا غَيْرَ مَوْضِعِ الْحَرْثِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ دَلِيلًا عَلَى الْإِذْنِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَالْمَنْعِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَلَمَّا اشْتَمَلَتِ الْآيَةُ عَلَى الْإِذْنِ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْمَنْعِ عَنِ الْمَوْضِعِ الْآخَرِ، لَا جَرَمَ قَالَ: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ أَيْ لَا تَكُونُوا فِي قَيْدِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ بَلْ كُونُوا فِي قَيْدِ تَقْدِيمِ الطَّاعَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ ثُمَّ أَكَّدَهُ ثَالِثًا بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَهَذِهِ التَّهْدِيدَاتُ الثَّلَاثَةُ الْمُتَوَالِيَةُ لَا يَلِيقُ ذِكْرُهَا إِلَّا إِذَا كَانَتْ مَسْبُوقَةً بِالنَّهْيِ عَنْ شَيْءٍ لَذِيذٍ مُشْتَهًى، فَثَبَتَ أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ دَالٌّ عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا الْعَمَلِ، وَمَا بَعْدَهَا أَيْضًا دَالٌّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُجْتَهِدِينَ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي التَّقْوَى قَدْ تَقَدَّمَ، وَالْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَةِ: ٤٦] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ أَوَّلُهَا: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَالْمُرَادُ مِنْهُ فِعْلُ الطَّاعَاتِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَرْكُ الْمَحْظُورَاتِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنِّي إِنَّمَا كَلَّفْتُكُمْ بِتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ فِي فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ لِأَجْلِ يَوْمِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالْحِسَابِ، فَلَوْلَا ذَلِكَ الْيَوْمُ لَكَانَ تَحَمُّلُ الْمَشَقَّةِ فِي فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ عَبَثًا وَمَا أَحْسَنَ هَذَا التَّرْتِيبَ، ثُمَّ قَالَ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ رِعَايَةُ التَّرْتِيبِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْقُرْآنِ/ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ مَعَ كُلِّ وَعِيدٍ وَعْدًا وَالْمَعْنَى وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً بِالثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ فَحَذَفَ ذِكْرَهُمَا لِمَا أَنَّهُمَا كَالْمَعْلُومِ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً [الأحزاب:

٤٧] .

[[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٤]]

وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤)

[الحكم التاسع في الأيمان]

وَالْمُفَسِّرُونَ أَكْثَرُوا مِنَ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَجْوَدُ مَا ذَكَرُوهُ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ، وَهُوَ الْأَحْسَنُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ نَهَى عَنِ الْجَرَاءَةِ عَلَى اللَّهِ بِكَثْرَةِ الْحَلِفِ بِهِ، لِأَنَّ مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ شَيْءٍ فِي مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي فَقَدْ جَعَلَهُ عُرْضَةً لَهُ يَقُولُ الرَّجُلُ: قَدْ جَعَلْتَنِي عُرْضَةً لِلَوْمِكَ،