للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ»

وَلَمَّا فَسَّرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّبِيلَ بِذَلِكَ وَجَبَ الْقَطْعُ بِصِحَّتِهِ، وَأَيْضًا: لَهُ وَجْهٌ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّ الْمُخَلِّصَ مِنَ الشَّيْءِ هُوَ سَبِيلٌ له، سواء كان أخف أو أثقل.

[[سورة النساء (٤) : آية ١٦]]

وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦)

[فِي قوله تعالى وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كثير والذان وهذان [الحج: ١٩] مُشَدَّدَةَ النُّونِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ، وَأَمَّا أَبُو عَمْرٍو فَإِنَّهُ وَافَقَ ابْنَ كَثِيرٍ فِي قَوْلِهِ: فَذانِكَ [القصص: ٣٢] أَمَّا وَجْهُ التَّشْدِيدِ قَالَ ابْنُ مِقْسَمٍ: إِنَّمَا شَدَّدَ ابْنُ كَثِيرٍ هَذِهِ النُّونَاتِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْفَرْقُ بَيْنَ تَثْنِيَةِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَمَكِّنَةِ وَغَيْرِ الْمُتَمَكِّنَةِ، وَالْآخَرُ: أَنَّ «الَّذِي وَهَذَا» مَبْنِيَّانِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الذَّالُ، فَأَرَادُوا تَقْوِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنْ زَادُوا عَلَى نُونِهَا نُونًا أُخْرَى مِنْ جِنْسِهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: سَبَبُ التَّشْدِيدِ فِيهَا أَنَّ النُّونَ فِيهَا لَيْسَتْ نُونَ التَّثْنِيَةِ، فَأَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ نُونِ التَّثْنِيَةِ، وَقِيلَ زَادُوا النُّونَ تَأْكِيدًا، كَمَا زَادُوا اللَّامَ، وَأَمَّا تَخْصِيصُ أَبِي عَمْرٍو التَّعْوِيضَ فِي الْمُبْهَمَةِ دُونَ الْمَوْصُولَةِ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَمَّا رَأَى مِنْ أَنَّ الْحَذْفَ لِلْمُبْهَمَةِ أَلْزَمُ، فَكَانَ اسْتِحْقَاقُهَا الْعِوَضَ أَشَدَّ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ الْأُولَى فِي الزُّنَاةِ قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا فِي الزُّنَاةِ/ فَعِنْدَ هَذَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ مَا السَّبَبُ فِي هَذَا التَّكْرِيرِ وَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ [النساء: ١٥] المراد منه الزواني، والمراد من قوله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ الزُّنَاةُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْحَبْسَ فِي الْبَيْتِ بِالْمَرْأَةِ وَخَصَّ الْإِيذَاءَ بِالرَّجُلِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِنَّمَا تَقَعُ فِي الزِّنَا عِنْدَ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ، فَإِذَا حُبِسَتْ فِي الْبَيْتِ انْقَطَعَتْ مَادَّةُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَبْسُهُ فِي الْبَيْتِ، لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْخُرُوجِ فِي إِصْلَاحِ مَعَاشِهِ وَتَرْتِيبِ مُهِمَّاتِهِ وَاكْتِسَابِ قُوتِ عِيَالِهِ، فَلَا جَرَمَ جُعِلَتْ عُقُوبَةُ الْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ الْحَبْسَ فِي الْبَيْتِ، وَجُعِلَتْ عُقُوبَةُ الرَّجُلِ الزَّانِي أَنْ يُؤْذَى، فَإِذَا تَابَ تُرِكَ إِيذَاؤُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْإِيذَاءَ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَالْحَبْسُ كَانَ مِنْ خَوَاصِّ الْمَرْأَةِ، فَإِذَا تَابَا أُزِيلَ الْإِيذَاءُ عَنْهُمَا وَبَقِيَ الْحَبْسُ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ. الثَّانِي: قَالَ السُّدِّيُّ: الْمُرَادُ بهذه الآية البكر من الرجل وَالنِّسَاءِ، وَبِالْآيَةِ الْأُولَى الثَّيِّبُ، وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ. قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَأَضَافَهُنَّ إِلَى الْأَزْوَاجِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ سَمَّاهُنَّ نِسَاءً وَهَذَا الِاسْمُ أَلْيَقُ بِالثَّيِّبِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأَذَى أَخَفُّ مِنَ الْحَبْسِ فِي الْبَيْتِ وَالْأَخَفُّ لِلْبِكْرِ دُونَ الثَّيِّبِ. وَالرَّابِعُ: قَالَ الْحَسَنُ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالتَّقْدِيرُ: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِ الْفَاحِشَةَ مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا. ثُمَّ نزل قوله: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ [النساء: ١٥] يَعْنِي إِنْ لَمْ يَتُوبَا وَأَصَرَّا عَلَى هَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَكُمْ أَحْوَالُهُنَّ، وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ فَسَادَ التَّرْتِيبِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. الْخَامِسُ: مَا نَقَلْنَاهُ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى فِي السَّحَاقَاتِ، وَهَذِهِ فِي أَهْلِ اللِّوَاطِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ. وَالسَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى أَنَّ الشُّهَدَاءَ عَلَى الزِّنَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونُوا أَرْبَعَةً، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا شَاهِدِينَ فَآذُوهُمَا وَخَوِّفُوهُمَا بِالرَّفْعِ إِلَى الْإِمَامِ وَالْحَدِّ، فَإِنْ تَابَا قَبْلَ الرَّفْعِ إِلَى الْإِمَامِ فَاتْرُكُوهُمَا.