فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي سُورَةِ يُونُسَ ثُمَّ إِنَّهُ أَعَادَهَا هاهنا مَرَّةً أُخْرَى، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّكْرِيرِ؟
قُلْنَا: إِنَّ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ قَدْ يُنْتَفَعُ بِهَا مِنْ وُجُوهٍ: فَفِي السُّورَةِ الْأُولَى كَانَ الْكُفَّارُ يَسْتَعْجِلُونَ نُزُولَ الْعَذَابِ، فَذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ نُوحٍ فِي بَيَانِ أَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ بِسَبَبِ أَنَّ الْعَذَابَ مَا كَانَ يَظْهَرُ/ ثُمَّ فِي الْعَاقِبَةِ ظَهَرَ فَكَذَا فِي وَاقِعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ لِأَجْلِ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُبَالِغُونَ فِي الْإِيحَاشِ، فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْقِصَّةَ لِبَيَانِ أَنَّ إِقْدَامَ الْكُفَّارِ عَلَى الْإِيذَاءِ وَالْإِيحَاشِ كَانَ حَاصِلًا فِي زَمَانِ نُوحٍ، إِلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا صَبَرَ نَالَ الْفَتْحَ وَالظَّفَرَ، فَكُنْ يَا مُحَمَّدُ كَذَلِكَ لِتَنَالَ الْمَقْصُودَ، وَلَمَّا كَانَ وَجْهُ الِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ فِي كُلِّ سُورَةٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ تَكْرِيرُهَا خاليا عن الفائدة.
[سورة هود (١١) : الآيات ٥٠ الى ٥١]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يَا قَوْمِ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْقِصَصِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا معطوف على قوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً [الحديد: ٢٦] وَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا وَقَوْلُهُ: هُوداً عَطْفُ بَيَانٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هُودًا بِأَنَّهُ أَخُوهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ تِلْكَ الْأُخُوَّةَ مَا كَانَتْ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ فِي النَّسَبِ، لِأَنَّ هُودًا كَانَ رَجُلًا مِنْ قَبِيلَةِ عَادٍ، وَهَذِهِ الْقَبِيلَةُ كَانَتْ قَبِيلَةً مِنَ الْعَرَبِ وَكَانُوا بِنَاحِيَةِ الْيَمَنِ، وَنَظِيرُهُ مَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ يَا أَخَا تَمِيمٍ وَيَا أَخَا سُلَيْمٍ، وَالْمُرَادُ رَجُلٌ مِنْهُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى، قَالَ فِي ابْنِ نُوحٍ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود: ٤٦] فَبَيَّنَ أَنَّ قَرَابَةَ النِّسَبِ لَا تُفِيدُ إِذَا لم تحصل قرابة الدين، وهاهنا أَثْبَتَ هَذِهِ الْأُخُوَّةَ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟
قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ اسْتِمَالَةُ قَوْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا يَسْتَبْعِدُونَ فِي مُحَمَّدٍ مَعَ أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ قَبِيلَتِهِمْ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا إِلَيْهِمْ مِنْ عِنْدِ اللَّه، فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ هُودًا كَانَ وَاحِدًا مِنْ عَادٍ وَأَنَّ صَالِحًا كَانَ وَاحِدًا مِنْ ثَمُودَ لِإِزَالَةِ هَذَا الِاسْتِبْعَادِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى أَنْوَاعٍ مِنَ التَّكَالِيفِ.
فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ دَعَاهُمْ إلى التوحيد، فَقَالَ: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ/ إِلَّا مُفْتَرُونَ وَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى قَبْلَ أَنْ أَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى ثُبُوتِ الْإِلَهِ تَعَالَى؟
قُلْنَا: دَلَائِلُ وُجُودِ اللَّه تَعَالَى ظَاهِرَةٌ، وَهِيَ دَلَائِلُ الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ وَقَلَّمَا تُوجَدُ فِي الدُّنْيَا طَائِفَةٌ يُنْكِرُونَ وُجُودَ الْإِلَهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.
قَالَ مُصَنِّفُ هَذَا الْكِتَابِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِيُّ رحمه اللَّه وختم له بالحسن، دَخَلْتُ بِلَادَ الْهِنْدِ فَرَأَيْتُ