للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّكُمْ فِي تَرْكِكُمْ دُعَاءَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَدْ نَسِيَهُمْ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ لِأَنَّهُ قَالَ:

يُعْرِضُونَ إِعْرَاضَ النَّاسِي، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ [يُونُسَ: ٢٢] وَلَا يَذْكُرُونَ الْأَوْثَانَ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يُجِيبُ الدُّعَاءَ إِنْ شَاءَ وَقَدْ لَا يُجِيبُهُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:

فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَوْلَهُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: ٦٠] يُفِيدُ الْجَزْمَ بِحُصُولِ الْإِجَابَةِ، فَكَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ.

وَالْجَوَابُ أَنْ نَقُولَ: تَارَةً يَجْزِمُ تَعَالَى بِالْإِجَابَةِ وَتَارَةً لَا يَجْزِمُ، إِمَّا بِحَسَبِ مَحْضِ الْمَشِيئَةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا، أَوْ بِحَسَبِ رِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَمَّا كَانَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ حَاصِلًا لَا جَرَمَ وَرَدَتِ الْآيَتَانِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: حَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ: إِذَا كُنْتُمْ تَرْجِعُونَ عِنْدَ نُزُولِ الشَّدَائِدِ إِلَى اللَّه تَعَالَى لَا إِلَى الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، فَلِمَ تُقْدِمُونَ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي/ لَا تَنْتَفِعُونَ بِعِبَادَتِهَا أَلْبَتَّةَ؟ وَهَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يُفِيدُ لَوْ كَانَ ذِكْرُ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ مَقْبُولًا. أَمَّا لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَرْدُودًا وَكَانَ الْوَاجِبُ هُوَ مَحْضُ التَّقْلِيدِ، كَانَ هَذَا الْكَلَامُ سَاقِطًا، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الدِّينِ هُوَ الحجة والدليل. واللَّه أعلم.

[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى أَنَّ الْكُفَّارَ عِنْدَ نُزُولِ الشَّدَائِدِ يَرْجِعُونَ إِلَى اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى اللَّه عِنْدَ كُلِّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الشَّدَائِدِ، بَلْ قَدْ يَبْقُونَ مُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ مُنْجَمِدِينَ عَلَيْهِ غَيْرَ رَاجِعِينَ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِنَا مِنْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى إِذَا لَمْ يَهْدِهِ لَمْ يَهْتَدِ، سَوَاءٌ شَاهَدَ الْآيَاتِ الْهَائِلَةَ، أَوْ لَمْ يُشَاهِدْهَا، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا فَخَالَفُوهُمْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَحَسُنَ الْحَذْفُ لِكَوْنِهِ مَفْهُومًا مِنَ الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ. وَقَالَ الْحَسَنُ (الْبَأْسَاءُ) شِدَّةُ الْفَقْرِ مِنَ الْبُؤْسِ (وَالضَّرَّاءُ) الْأَمْرَاضُ وَالْأَوْجَاعُ.

ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا أَرْسَلْنَا الرُّسُلَ إِلَيْهِمْ وَإِنَّمَا سَلَّطْنَا الْبَأْسَاءَ وَالضَّرَّاءَ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ أَنْ يَتَضَرَّعُوا. وَمَعْنَى التَّضَرُّعِ التَّخَشُّعُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الِانْقِيَادِ وَتَرَكِ التَّمَرُّدِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الضَّرَاعَةِ وَهِيَ الذِّلَّةُ، يُقَالُ ضَرَعَ الرَّجُلُ يَضْرَعُ ضَرَاعَةً فَهُوَ ضَارِعٌ أَيْ ذَلِيلٌ ضَعِيفٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمَ نَبِيَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَرْسَلَ قَبْلَهُ إِلَى أَقْوَامٍ بَلَغُوا فِي الْقَسْوَةِ إِلَى أَنْ أُخِذُوا بِالشِّدَّةِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَلَمْ يَخْضَعُوا وَلَمْ يَتَضَرَّعُوا، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّسْلِيَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>