للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَشِيئَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْغُفْرَانُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ غُفْرَانُ الْكَبِيرَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَاعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْأَخِيرِ بِأَنَّ تَعْلِيقَ الْأَمْرِ بِالْمَشِيئَةِ لَا يُنَافِي وُجُوبَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: ٤٩] ثُمَّ إِنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُزَكِّي إِلَّا مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلتَّزْكِيَةِ، وَإِلَّا كَانَ كذبا، والكذب على اللَّه محال، فكذا هاهنا.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُعْتَزِلَةِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ كَلَامٌ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ إِلَّا الْمُعَارَضَةَ بِعُمُومَاتِ الْوَعِيدِ، وَنَحْنُ نُعَارِضُهَا بِعُمُومَاتِ الْوَعْدِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَةِ: ٨١] فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ مِنَّا عَلَى كَبِيرَةٍ شَهِدْنَا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَأَمْسَكْنَا عَنِ الشَّهَادَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنِّي لَأَرْجُو كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ عَمَلٌ، كَذَلِكَ لَا يَضُرُّ مَعَ التَّوْحِيدِ ذَنْبٌ. ذَكَرَ ذَلِكَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَسَكَتَ عُمَرُ.

وَرُوِيَ مَرْفُوعًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اتَّسِمُوا بِالْإِيمَانِ وَأَقِرُّوا بِهِ فَكَمَا لَا يُخْرِجُ إِحْسَانُ الْمُشْرِكِ الْمُشْرِكَ مِنْ إِشْرَاكِهِ كَذَلِكَ لَا تُخْرِجُ ذنوب المؤمن المؤمن من إيمانه» .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:

رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا قَتَلَ وَحْشِيٌّ حَمْزَةَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانُوا قَدْ وَعَدُوهُ بِالْإِعْتَاقِ إِنْ هُوَ فَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَا وَفَّوْا لَهُ بِذَلِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَدِمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَكَتَبُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَنْبِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُهُمْ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الْفُرْقَانِ: ٦٨] فَقَالُوا: قَدِ ارْتَكَبْنَا كُلَّ مَا فِي الْآيَةِ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [الْفُرْقَانِ: ٧٠] فَقَالُوا: هَذَا شَرْطٌ شَدِيدٌ نَخَافُ أَنْ لَا نَقُومَ بِهِ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فَقَالُوا:

نَخَافُ أَنْ لَا نَكُونَ من أهل مشيئته، فنزل قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزُّمَرِ: ٥٣] فَدَخَلُوا عِنْدَ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ.

وَطَعَنَ الْقَاضِي فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَقَالَ: إِنَّ مَنْ يُرِيدُ الْإِيمَانَ لَا يَجُوزُ مِنْهُ الْمُرَاجَعَةُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزُّمَرِ: ٥٣] لَوْ كَانَ عَلَى إِطْلَاقِهِ لَكَانَ ذَلِكَ إِغْرَاءً لَهُمْ بِالثَّبَاتِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ.

وَالْجَوَابُ عَنْهُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمُ اسْتَعْظَمُوا قَتْلَ حَمْزَةَ وَإِيذَاءَ الرَّسُولِ إِلَى ذَلِكَ/ الْحَدِّ، فَوَقَعَتِ الشُّبْهَةُ فِي قُلُوبِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ هَلْ يُغْفَرُ لَهُمْ أَمْ لَا، فَلِهَذَا الْمَعْنَى حَصَلَتِ الْمُرَاجَعَةُ. وَقَوْلُهُ: هَذَا إِغْرَاءٌ بِالْقَبِيحِ، فَهُوَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَتِمُّ عَلَى مَذْهَبِهِ، أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا: إِنَّهُ تَعَالَى فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، فَالسُّؤَالُ سَاقِطٌ واللَّه أَعْلَمُ.

ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً أَيِ اخْتَلَقَ ذَنْبًا غَيْرَ مَغْفُورٍ، يُقَالُ: افْتَرَى فُلَانٌ الْكَذِبَ إِذَا اعْتَمَلَهُ وَاخْتَلَقَهُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَرْيِ بِمَعْنَى الْقَطْعِ.

[سورة النساء (٤) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠)

اعمل أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا هَدَّدَ الْيَهُودَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فَعِنْدَ هَذَا قَالُوا: لَسْنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، بَلْ نَحْنُ خَوَاصُّ اللَّه تَعَالَى كَمَا حَكَى تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَةِ: ١٨] وحكى

<<  <  ج: ص:  >  >>