مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ أَنَّهُ يُوجَدُ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُجَادَلَةُ بِالْبَاطِلِ لِغَرَضِ دَحْضِ الْحَقِّ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا يُجَادِلُونَهُمْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُجَادَلَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَبَيَّنَ تَعَالَى أَيْضًا أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا آيَاتِ اللَّهِ وَهِيَ الْقُرْآنُ وَإِنْذَارَاتِ الْأَنْبِيَاءِ هُزُوًا وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اسْتِيلَاءِ الْجَهْلِ وَالْقَسْوَةِ. قَالَ النَّحْوِيُّونَ مَا فِي قَوْلِهِ: وَما أُنْذِرُوا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وَيَكُونَ الْعَائِدُ مِنَ الصِّلَةِ مَحْذُوفًا وَيَجُوزُ أن تكون مصدرية بمعنى إنذارهم.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥٧ الى ٥٩]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ جِدَالَهُمْ بِالْبَاطِلِ وَصَفَهُمْ بَعْدَهُ بِالصِّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْخِزْيِ/ وَالْخِذْلَانِ. الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ أَيْ لَا ظُلْمَ أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ مَنْ تَرِدُ عَلَيْهِ الْآيَاتُ وَالْبَيِّنَاتُ فَيُعْرِضُ عَنْهَا وَيَنْسَى مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ أَيْ مَعَ إِعْرَاضِهِ عَنِ التَّأَمُّلِ فِي الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ يَتَنَاسَى مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُنْكَرَةِ وَالْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ وَالْمُرَادُ مِنَ النِّسْيَانِ التَّشَاغُلُ وَالتَّغَافُلُ عَنْ كُفْرِهِ الْمُتَقَدِّمِ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: [قَوْلِهِ] : إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَالْعَجَبُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ مُتَمَسَّكُ الْقَدَرِيَّةِ، وَقَوْلَهُ: إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ مُتَمَسَّكُ الْجَبْرِيَّةِ وَقَلَّمَا نَجِدُ فِي الْقُرْآنِ آيَةً لِأَحَدِ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ إِلَّا وَمَعَهَا آيَةٌ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ، وَالتَّجْرِبَةُ تَكْشِفُ عَنْ صِدْقِ قَوْلِنَا. وَمَا ذَاكَ إِلَّا امْتِحَانٌ شَدِيدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَلْقَاهُ عَلَى عِبَادِهِ لِيَتَمَيَّزَ الْعُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ الْغَفُورُ الْبَلِيغُ الْمَغْفِرَةِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى دَفْعِ الْمَضَارِّ ذُو الرَّحْمَةِ الْمَوْصُوفُ بِالرَّحْمَةِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ لَفْظُ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَغْفِرَةِ لَا فِي الرَّحْمَةِ، لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ تَرْكُ الْإِضْرَارِ وَهُوَ تَعَالَى قَدْ تَرَكَ مَضَارَّ لَا نِهَايَةَ لَهَا مَعَ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَيْهَا، أَمَّا فِعْلُ الرَّحْمَةِ فَهُوَ مُتَنَاهٍ لِأَنَّ تَرْكَ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مُمْكِنٌ، أَمَّا فِعْلُ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ فَمُحَالٌ «١» وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يَغْفِرُ كَثِيرًا لِأَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ وَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهَا فَيَهَبُهَا مِنَ الْمُحْتَاجِينَ كَثِيرًا ثُمَّ اسْتَشْهَدَ بِتَرْكِ مُؤَاخَذَةِ أَهْلِ مَكَّةَ عَاجِلًا مِنْ غَيْرِ إِمْهَالٍ مَعَ إِفْرَاطِهِمْ فِي عَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ وَهُوَ إِمَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِمَّا فِي الدُّنْيَا وَهُوَ يَوْمُ بَدْرِ وَسَائِرُ أَيَّامِ الْفَتْحِ [وَقَوْلُهُ] : لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [أَيْ] مَنْجًى وَلَا مَلْجَأً، يُقَالُ وَأَلَ إِذَا لَجَأَ، وَوَأَلَ إِلَيْهِ إِذَا لَجَأَ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْقُرى يُرِيدُ قُرَى الْأَوَّلِينَ مِنْ ثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَغَيْرِهِمْ أَشَارَ إِلَيْهَا لِيَعْتَبِرُوا، وَتِلْكَ مُبْتَدَأٌ، وَالْقُرَى صِفَةٌ لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْإِشَارَةِ تُوصَفُ بِأَصْنَافِ الْأَجْنَاسِ وَأَهْلَكْنَاهُمْ خَبَرٌ وَالْمَعْنَى، وَتِلْكَ أَصْحَابُ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا مِثْلَ ظُلْمِ أَهْلِ مَكَّةَ: وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً أَيْ وَضَرَبْنَا لِإِهْلَاكِهِمْ وَقْتًا مَعْلُومًا لَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْهُ كَمَا ضَرَبْنَا لِأَهْلِ مَكَّةَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالْمَهْلِكُ الْإِهْلَاكُ أَوْ وَقْتُهُ، وَقُرِئَ لِمَهْلَكِهِمْ بِفَتْحِ الْمِيمِ واللام
(١) في الأصل النسخة الأميرية (أما فعل ما لا نهاية له محال) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute