للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بسم الله الرحمن الرّحيم

سُورَةُ الْحَدِيدِ

وَهِيَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً مَكِّيَّةٌ

[[سورة الحديد (٥٧) : آية ١]]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١)

وَفِيهِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّسْبِيحُ تَبْعِيدُ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ السُّوءِ، وَكَذَا التَّقْدِيسُ مِنْ سَبَحَ فِي الْمَاءِ وَقَدَّسَ فِي الْأَرْضِ إِذَا ذَهَبَ فِيهَا وَأَبْعَدَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ التَّسْبِيحَ عَنِ السُّوءِ يَدْخُلُ فِيهِ تَبْعِيدُ الذَّاتِ عَنِ السُّوءِ، وَتَبْعِيدُ الصِّفَاتِ وَتَبْعِيدُ الْأَفْعَالِ، وَتَبْعِيدُ الْأَسْمَاءِ وَتَبْعِيدُ الْأَحْكَامِ، أَمَّا فِي الذَّاتِ: فَأَنْ لَا تَكُونَ مَحَلًّا لِلْإِمْكَانِ، فَإِنَّ السُّوءَ هُوَ الْعَدَمُ وَإِمْكَانُهُ، ثُمَّ نَفْيُ الْإِمْكَانِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْكَثْرَةِ، وَنَفْيُهَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْجِسْمِيَّةِ وَالْعَرَضِيَّةِ، وَنَفْيَ الضِّدِّ وَالنِّدِّ وَحُصُولَ الْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ. وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ: فَأَنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنِ الْجَهْلِ بِأَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، وَيَكُونَ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ، وَتَكُونَ صِفَاتُهُ مُنَزَّهَةً عَنِ التَّغَيُّرَاتِ. وَأَمَّا فِي الْأَفْعَالِ: فَأَنْ تَكُونَ فَاعِلِيَّتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى مَادَّةٍ وَمِثَالٍ، لِأَنَّ كُلَّ مَادَّةٍ وَمِثَالٍ فَهُوَ فِعْلُهُ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَهُوَ فِعْلُهُ، فَلَوِ افْتَقَرَتْ فَاعِلِيَّتُهُ إِلَى مَادَّةٍ وَمِثَالٍ، لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَغَيْرُ مَوْقُوفَةٍ عَلَى زَمَانٍ وَمَكَانٍ، لِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ فَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ مُنْقَضِيَةٍ، فَيَكُونُ مُمْكِنًا، كُلُّ مَكَانٍ فهو يعد ممكن مركب مِنْ أَفْرَادِ الْأَحْيَازِ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُمْكِنًا وَمُحْدَثًا، فَلَوِ افْتَقَرَتْ فَاعِلِيَّتُهُ إِلَى زَمَانٍ وإلى مكان، لا فتقرت فَاعِلِيَّةُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ إِلَى زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَغَيْرُ مَوْقُوفَةٍ عَلَى جَلْبِ مَنْفَعَةٍ، وَلَا دَفْعِ مَضَرَّةٍ، وَإِلَّا لَكَانَ مُسْتَكْمَلًا بِغَيْرِهِ نَاقِصًا فِي ذَاتِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَأَمَّا فِي الْأَسْمَاءِ: فَكَمَا قَالَ: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الْأَعْرَافِ: ١٨] . وَأَمَّا فِي الْأَحْكَامِ:

فَهُوَ أَنْ كُلَّ مَا شَرَعَهُ فَهُوَ مَصْلَحَةٌ وَإِحْسَانٌ وَخَيْرٌ، وَأَنَّ كَوْنَهُ فَضْلًا وَخَيْرًا لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْسَانِ، وَبِالْجُمْلَةِ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَنَّ حُكْمَهُ وَتَكْلِيفَهُ لَازِمٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حُكْمٌ وَلَا تَكْلِيفٌ وَلَا يَجِبُ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَصْلًا، فَهَذَا هُوَ ضَبْطُ مَعَاقِدِ التَّسْبِيحِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: جَاءَ فِي بَعْضِ الْفَوَاتِحِ سَبَّحَ عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي، وَفِي بَعْضِهَا عَلَى لَفْظِ الْمُضَارِعِ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُسَبِّحَةً غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، بَلْ هِيَ كَانَتْ مُسَبِّحَةً أَبَدًا فِي الْمَاضِي، وَتَكُونُ مُسَبِّحَةً أَبَدًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَوْنَهَا مُسَبِّحَةً صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِمَاهِيَّاتِهَا، فَيَسْتَحِيلُ انفكاك

<<  <  ج: ص:  >  >>