فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: فَوَقَعَ الْحَقُّ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ هَذَا الظُّهُورِ فَكَانَ قَوْلُهُ: وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ تَكْرِيرًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ! قُلْنَا: الْمُرَادُ أَنَّ مَعَ ثُبُوتِ هَذَا الْحَقِّ زَالَتِ الْأَعْيَانُ الَّتِي أَفَكُوهَا وَهِيَ تِلْكَ الْحِبَالُ وَالْعِصِيُّ فَعِنْدَ ذَلِكَ ظَهَرَتِ الْغَلَبَةُ فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَغُلِبُوا هُنالِكَ لِأَنَّهُ لَا غَلَبَةَ أَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ لِأَنَّهُ لَا ذُلَّ وَلَا صَغَارَ أَعْظَمُ فِي حَقِّ الْمُبْطِلِ مِنْ ظُهُورِ بُطْلَانِ قَوْلِهِ وَحُجَّتِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ فِيهِ حِيلَةٌ وَلَا شُبْهَةٌ أَصْلًا قَالَ الْوَاحِدِيُّ: لَفْظَةُ (مَا) فِي قَوْلِهِ: وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى «الَّذِي» فَيَكُونُ الْمَعْنَى بَطَلَ الْحِبَالُ وَالْعِصِيُّ الَّذِي عَمِلُوا بِهِ السِّحْرَ أَيْ زَالَ وَذَهَبَ بِفِقْدَانِهَا وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ قِيلَ بَطَلَ عَمَلُهُمْ والله اعلم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٢٠ الى ١٢٢]
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ تِلْكَ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ كَانَتْ حِمْلَ ثَلَاثِمِائَةِ بَعِيرٍ فَلَمَّا ابْتَلَعَهَا ثُعْبَانُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَارَتْ عَصًا كَمَا كَانَتْ قَالَ بَعْضُ السَّحَرَةِ لِبَعْضٍ هَذَا خَارِجٌ عَنِ السِّحْرِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ إِلَهِيٌّ فَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبِيٌّ صَادِقٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ كَانُوا عَالِمِينَ بِحَقِيقَةِ السِّحْرِ وَاقِفِينَ عَلَى مُنْتَهَاهُ فَلَمَّا كَانُوا كَذَلِكَ وَوَجَدُوا مُعْجِزَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَارِجَةً عَنْ حَدِّ السِّحْرِ عَلِمُوا أَنَّهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْإِلَهِيَّةِ لَا مِنْ جِنْسِ التَّمْوِيهَاتِ الْبَشَرِيَّةِ وَلَوْ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا كَامِلِينَ فِي عِلْمِ السِّحْرِ لَمَا قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: لَعَلَّهُ أَكْمَلُ/ مِنَّا فِي عِلْمِ السِّحْرِ فَقَدَرَ عَلَى مَا عَجَزْنَا عَنْهُ فَثَبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا كَامِلِينَ فِي عِلْمِ السِّحْرِ.
فَلِأَجْلِ كَمَالِهِمْ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ انْتَقَلُوا مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ فَإِذَا كَانَ حَالُ عِلْمِ السِّحْرِ كَذَلِكَ فَمَا ظَنُّكَ بِكَمَالِ حَالِ الْإِنْسَانِ فِي عِلْمِ التَّوْحِيدِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قَالُوا: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمْ أَلْقَاهُمْ سَاجِدِينَ وَمَا ذَاكَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ مُقَاتِلٌ:
أَلْقَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى سَاجِدِينَ. وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ لَمَّا شَاهَدُوا الْآيَاتِ الْعَظِيمَةَ وَالْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةَ لَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ وَقَعُوا سَاجِدِينَ فَصَارَ كَأَنَّ مُلْقِيًا أَلْقَاهُمْ الثَّانِي: قَالَ الْأَخْفَشُ: مِنْ سُرْعَةِ مَا سَجَدُوا صَارُوا كَأَنَّهُمْ أَلْقَاهُمْ غَيْرُهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ وَقَعُوا سَاجِدِينَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ أَلْقَاهُمْ مُلْقٍ إِلَى السُّجُودِ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ الْمُلْقِي هُوَ أَنْفُسُهُمْ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ خَالِقَ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ فِي قُلُوبِهِمْ هُوَ الله تعالى والا لا فتقروا فِي خَلْقِ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ الْجَازِمَةِ إِلَى دَاعِيَةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ. ثُمَّ إِنَّ أَصْلَ تِلْكَ الْقُدْرَةِ مَعَ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ الْجَازِمَةِ تَصِيرُ مُوجِبَةً لِلْفِعْلِ وَخَالِقُ ذَلِكَ الْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَكَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ وَالْأَثَرُ مُسْنَدًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute