للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

انضاف إليه القول لا جرم كمل الإيمان. الثاني: رَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ قوله بِما قالُوا يريد بما سألوا، يعني قولهم فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة: ٨٣] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْفَاسِقَ لَا يَبْقَى مُخَلَّدًا فِي النَّارِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ وَهَذَا الْإِحْسَانُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [الْمَائِدَةِ: ٨٣] وَمِنَ الْإِقْرَارِ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ، وَهَذَا الْإِقْرَارَ يُوجِبُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ هَذَا الثَّوَابُ، وَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ لَهُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ وَهَذَا الْإِقْرَارُ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ هَذَا الثَّوَابُ، فَأَمَّا أَنْ يُنْقَلَ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى النَّارِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ يُقَالَ: يُعَاقَبُ عَلَى ذَنْبِهِ ثُمَّ يُنْقَلُ إِلَى الْجَنَّةِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ.

الثَّانِي: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ فَقَوْلُهُ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ لَا غَيْرُهُمْ، وَالْمُصَاحِبُ لِلشَّيْءِ هُوَ الْمُلَازِمُ لَهُ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، فَهَذَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذَا الدَّوَامِ بِالْكُفَّارِ، فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ لَا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ الْفَاسِقِ.

[[سورة المائدة (٥) : آية ٨٧]]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧)

اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا اسْتَقْصَى فِي الْمُنَاظَرَةِ مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَادَ بَعْدَهُ إِلَى بَيَانِ الْأَحْكَامِ وَذَكَرَ جُمْلَةً مِنْهَا.

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِحِلِّ المطاعم والمشارب واللذات فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الطَّيِّبَاتُ اللَّذِيذَاتُ الَّتِي تَشْتَهِيهَا النُّفُوسُ، وَتَمِيلُ إِلَيْهَا الْقُلُوبُ، وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ:

رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَصْحَابِهِ فِي بَيْتِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَبَالَغَ وَأَشْبَعَ الْكَلَامَ فِي الْإِنْذَارِ وَالتَّحْذِيرِ، فَعَزَمُوا عَلَى أَنْ يَرْفُضُوا الدُّنْيَا وَيُحَرِّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْمَطَاعِمَ الطَّيِّبَةَ وَالْمُشَارِبَ اللَّذِيذَةَ، وَأَنْ يَصُومُوا النَّهَارَ وَيَقُومُوا اللَّيْلَ وَأَنْ لَا يَنَامُوا عَلَى الْفُرُشِ، وَيَخْصُوا أَنْفُسَهُمْ وَيَلْبَسُوا الْمُسُوحَ وَيَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فقالوا لَهُمْ «إِنِّي لَمْ أُومَرْ بِذَلِكَ إِنَّ لِأَنْفُسِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا وَقُومُوا وَنَامُوا فَإِنِّي أقوم وأنام وأصوم وأفطر آكل اللَّحْمَ وَالدَّسَمَ وَآتِي النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»

وَبِهَذَا الْكَلَامِ ظَهَرَ وَجْهُ النَّظْمِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَ النَّصَارَى بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا، وَعَادَتُهُمُ الِاحْتِرَازُ عَنْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، فَلَمَّا مَدَحَهُمْ أَوْهَمَ ذَلِكَ الْمَدْحُ تَرْغِيبَ الْمُسْلِمِينَ فِي مِثْلِ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ، فَذَكَرَ تَعَالَى عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ إِزَالَةً لِذَلِكَ الْوَهْمِ، لِيُظْهِرَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مَأْمُورِينَ بِذَلِكَ.

فَإِنْ قِيلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي هَذَا النَّهْيِ، فَإِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ حُبَّ الدُّنْيَا مُسْتَوْلٍ عَلَى الطِّبَاعِ وَالْقُلُوبِ، فَإِذَا تَوَسَّعَ الْإِنْسَانُ فِي اللَّذَّاتِ وَالطَّيِّبَاتِ اشْتَدَّ مَيْلُهُ إِلَيْهَا وَعَظُمَتْ رَغْبَتُهُ فِيهَا، وَكُلَّمَا كَانَتْ تِلْكَ النِّعَمُ أَكْثَرَ وَأَدْوَمَ كَانَ ذَلِكَ الْمَيْلُ أَقْوَى وَأَعْظَمَ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْمَيْلُ قُوَّةً وَرَغْبَةً ازْدَادَ حِرْصُهُ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَاسْتِغْرَاقُهُ فِي تَحْصِيلِهَا، وَذَلِكَ يَمْنَعُهُ عَنِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّه وَفِي طَاعَتِهِ وَيَمْنَعُهُ عَنْ طَلَبِ سَعَادَاتِ الْآخِرَةِ، وَأَمَّا إِذَا أَعْرَضَ عَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>