للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قُلْنَا: الْغَرَضُ بِذَلِكَ إِفْهَامُ الْعِبَادِ كَمَالَ عِلْمِهِ، وفهمهم هذا المعنى عند ذكر السموات وَالْأَرْضِ أَقْوَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحِسَّ يَرَى عَظَمَةَ السموات وَالْأَرْضِ، فَيُعِينُ الْعَقْلَ عَلَى مَعْرِفَةِ عَظَمَةِ عِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْحِسُّ مَتَى أَعَانَ الْعَقْلَ عَلَى الْمَطْلُوبِ كَانَ الْفَهْمُ أَتَمَّ وَالْإِدْرَاكُ أَكْمَلَ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْمَعَانِي الدَّقِيقَةَ إِذَا أُرِيدَ إِيضَاحُهَا ذُكِرَ لَهَا مِثَالٌ، فَإِنَّ الْمِثَالَ يُعِينُ عَلَى الْفَهْمِ.

أَمَّا قَوْلُهُ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: التَّصْوِيرُ جَعْلُ الشَّيْءِ عَلَى صُورَةٍ، وَالصُّورَةُ هَيْئَةٌ حَاصِلَةٌ لِلشَّيْءِ عِنْدَ إِيقَاعِ التَّأْلِيفِ بَيْنَ أَجْزَائِهِ وَأَصْلُهُ مِنْ صَارَهُ يَصُورُهُ إِذَا أَمَالَهُ، فَهِيَ صُورَةٌ لِأَنَّهَا مَائِلَةٌ إِلَى شَكْلِ أَبَوَيْهِ وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِيهِ ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ [الْبَقَرَةِ: ٢٦٠] وَأَمَّا الْأَرْحَامِ فَهِيَ جَمْعُ رَحِمٍ وَأَصْلُهَا مِنَ الرَّحْمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الرَّحِمِ يُوجِبُ الرَّحْمَةَ وَالْعَطْفَ، فَلِهَذَا سُمِّيَ ذلك العضو رحماً والله أعلم.

[[سورة آل عمران (٣) : آية ٧]]

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧)

اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ ذَكَرْنَا فِي اتِّصَالِ قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ بِمَا قَبْلَهُ احْتِمَالَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ كَالتَّقْرِيرِ لِكَوْنِهِ قَيُّومًا وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ شُبَهِ النَّصَارَى، فَأَمَّا عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ قَيُّومٌ وَقَائِمٌ بِمَصَالِحِ/ الْخَلْقِ وَمَصَالِحُ الْخَلْقِ قِسْمَانِ: جُسْمَانِيَّةٌ وَرُوحَانِيَّةٌ، أَمَّا الْجُسْمَانِيَّةُ فَأَشْرَفُهَا تَعْدِيلُ الْبِنْيَةِ، وَتَسْوِيَةُ الْمِزَاجِ عَلَى أَحْسَنِ الصُّوَرِ وَأَكْمَلِ الْأَشْكَالِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ [آلِ عِمْرَانَ: ٦] وَأَمَّا الرُّوحَانِيَّةُ فَأَشْرَفُهَا الْعِلْمُ الَّذِي تَصِيرُ الرُّوحُ مَعَهُ كَالْمِرْآةِ الْمَجْلُوَّةِ الَّتِي تَجَلَّتْ صُوَرُ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ فِيهَا وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَأَمَّا عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ شُبَهِ النَّصَارَى تَمَسُّكُهُمْ بِمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُحْكَمٍ وَعَلَى مُتَشَابِهٍ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْمُتَشَابِهَاتِ غَيْرُ جَائِزٍ فَهَذَا مَا يتعلق بكيفية النظم، وهو فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالِاسْتِقَامَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِكُلِّيَّتِهِ مُحْكَمٌ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِكُلِّيَّتِهِ مُتَشَابِهٌ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُ مُحْكَمٌ، وَبَعْضَهُ مُتَشَابِهٌ.

أَمَّا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِكُلِّيَّتِهِ مُحْكَمٌ، فَهُوَ قَوْلُهُ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ [يُونُسَ: ١] الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هُودٍ: ١] فَذَكَرَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ جَمِيعَهُ مُحْكَمٌ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْمُحْكَمِ بِهَذَا الْمَعْنَى كَوْنُهُ كَلَامًا حَقًّا فَصِيحَ الْأَلْفَاظِ صَحِيحَ الْمَعَانِي وَكُلُّ قَوْلٍ وَكَلَامٍ يُوجَدُ كَانَ الْقُرْآنُ أَفْضَلَ مِنْهُ فِي فَصَاحَةِ اللَّفْظِ وَقُوَّةِ الْمَعْنَى وَلَا يَتْمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ إِتْيَانِ كَلَامٍ يُسَاوِي الْقُرْآنَ فِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي الْبِنَاءِ الْوَثِيقِ وَالْعَقْدِ الْوَثِيقِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ حَلُّهُ: مُحْكَمٌ، فَهَذَا مَعْنَى وَصْفِ جَمِيعِهِ بأنه محكم.