[[سورة العنكبوت (٢٩) : آية ٢٤]]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤)
لَمَّا أَتَى إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِبَيَانِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ وَأَقَامَ الْبُرْهَانَ عَلَيْهِ، بَقِيَ الْأَمْرُ مِنْ جَانِبِهِمْ إِمَّا الْإِجَابَةُ أَوِ الْإِتْيَانُ بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابَهُ فَلَمْ يَأْتُوا إِلَّا بِقَوْلِهِمُ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَيْفَ سَمَّى قَوْلَهُمُ اقْتُلُوهُ جَوَابًا، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِجَوَابٍ؟ فَنَقُولُ (الْجَوَابُ عَنْهُ) مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُمْ مَخْرَجَ كَلَامِ الْمُتَكَبِّرِ كَمَا يَقُولُ الْمَلِكُ لِرَسُولِ خَصْمِهِ جَوَابُكُمُ السَّيْفُ، مَعَ أَنَّ السَّيْفَ لَيْسَ بِجَوَابٍ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ لَا أُقَابِلُهُ بِالْجَوَابِ، وَإِنَّمَا أُقَابِلُهُ بِالسَّيْفِ فَكَذَلِكَ قَالُوا لَا تُجِيبُوا عَنْ بَرَاهِينِهِ وَاقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ الثَّانِي هُوَ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بَيَانَ ضلالهم وَهُوَ أَنَّهُمْ ذُكِرُوا فِي مَعْرِضِ الْجَوَابِ هَذَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِجَوَابٍ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ أَصْلًا وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ لَا يُجِيبُ غَيْرَهُ وَيَسْكُتُ، لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجَوَابِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ لِعَدَمِ الِالْتِفَاتِ، أَمَّا إِذَا أَجَابَ بِجَوَابٍ فَاسِدٍ، عُلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ الْجَوَابَ وَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَائِلُونَ الَّذِينَ قَالُوا اقْتُلُوهُ هُمْ قَوْمُهُ وَالْمَأْمُورُونَ بِقَوْلِهِمُ اقْتُلُوهُ أَيْضًا هُمْ، فَيَكُونُ الْآمِرُ نَفْسَ الْمَأْمُورِ؟ فَنَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَالَ لِمَنْ عَدَاهُ اقْتُلُوهُ، فَحَصَلَ الْأَمْرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَصَارَ الْمَأْمُورُ كُلَّ وَاحِدٍ وَلَا اتِّحَادَ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ أَمَرَ غَيْرَهُ وَثَانِيهِمَا: هُوَ أَنَّ الْجَوَابَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْأَكَابِرِ وَالرُّؤَسَاءِ، فَإِذَا قَالَ أَعْيَانُ بَلَدٍ كَلَامًا يُقَالُ اتَّفَقَ أَهْلُ الْبَلْدَةِ عَلَى هَذَا وَلَا يلتفت إلى عدم قول العبيد والأرذال، فَكَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ وَهُمُ الرُّؤَسَاءُ أَنْ قَالُوا لِأَتْبَاعِهِمْ وَأَعْوَانِهِمُ اقْتُلُوهُ، لِأَنَّ الْجَوَابَ لَا يُبَاشِرُهُ إِلَّا الْأَكَابِرُ وَالْقَتْلَ لَا يُبَاشِرُهُ إِلَّا الْأَتْبَاعُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: (أَوْ) يُذْكَرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ الثَّانِي مِنْهُمَا يَنْفَكُّ عَنِ الْأَوَّلِ كَمَا يُقَالُ زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ، وَيُقَالُ هَذَا إِنْسَانٌ أَوْ حَيَوَانٌ، يَعْنِي إِنْ لَمْ يَكُنْ إِنْسَانًا فَهُوَ حَيَوَانٌ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هَذَا حَيَوَانٌ/ أَوْ إِنْسَانٌ إِذْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يَقُولُ هُوَ حَيَوَانٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَيَوَانًا فَهُوَ إِنْسَانٌ وَهُوَ مُحَالٌ لَكِنَّ التَّحْرِيقَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْقَتْلِ فَقَوْلُهُ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ حَيَوَانٌ أَوْ إِنْسَانٌ، الْجَوَابُ عَنْهُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ عَلَى خِلَافِ مَا ذُكِرَ شَائِعٌ وَيَكُونُ (أَوْ) مُسْتَعْمَلًا فِي مَوْضِعِ بَلْ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ أَعْطَيْتُهُ دِينَارًا أَوْ دِينَارَيْنِ، وَكَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ أَعْطِهِ دِينَارًا بَلْ دِينَارَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل: ٢- ٤] فكذلك هاهنا اقْتُلُوهُ أَوْ زِيدُوا عَلَى الْقَتْلِ وَحَرِّقُوهُ (الْجَوَابُ الثَّانِي) : هُوَ أَنَّا نُسَلِّمُ مَا ذَكَرْتُمْ وَالْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ، لِأَنَّ التَّحْرِيقَ فِعْلٌ مُفْضٍ إِلَى الْقَتْلِ وَقَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الْقَتْلُ فَإِنَّ مَنْ أَلْقَى غَيْرَهُ فِي النَّارِ حَتَّى احْتَرَقَ جِلْدُهُ بِأَسْرِهِ وَأُخْرِجَ مِنْهَا حَيًّا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ احْتَرَقَ فُلَانٌ وَأَحْرَقَهُ فُلَانٌ وَمَا مَاتَ، فَكَذَلِكَ هاهنا قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ لَا تُعَجِّلُوا قَتْلَهُ وَعَذِّبُوهُ بِالنَّارِ، وَإِنْ تَرَكَ مَقَالَتَهُ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ وَإِنْ أَصَرَّ فَخَلُّوا فِي النَّارِ مَقِيلَهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ اخْتَلَفَ الْعُقَلَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِنْجَاءِ، بَعْضُهُمْ قَالَ بَرَّدَ النَّارَ وهو الأصح الموافق لقوله تعالى: يا نارُ كُونِي بَرْداً [الْأَنْبِيَاءِ: ٦٩] وَبَعْضُهُمْ قَالَ خَلَقَ فِي إِبْرَاهِيمَ كَيْفِيَّةً اسْتَبْرَدَ مَعَهَا النَّارَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ تَرَكَ إِبْرَاهِيمَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَالنَّارَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ وَمَنَعَ أَذَى النَّارِ عَنْهُ، وَالْكُلُّ مُمْكِنٌ وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ، وَأَنْكَرَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ الْكُلَّ، أَمَّا سَلْبُ الْحَرَارَةِ عَنِ النَّارِ، قَالُوا الْحَرَارَةُ فِي النَّارِ ذَاتِيَّةٌ كَالزَّوْجِيَّةِ في الأربعة
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute