للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِذَا تَمَّمَ النَّظَرَ فِي مَعْرِفَةِ الْمُنْعِمِ آمَنَ بِهِ ثُمَّ شَكَرَ شُكْرًا مُفَصَّلًا، فَكَانَ ذَلِكَ الشُّكْرُ الْمُجْمَلُ مُقَدَّمًا عَلَى الْإِيمَانِ، فَلِهَذَا قَدَّمَهُ عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ.

ثُمَّ قَالَ: وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالشُّكْرِ سَمَّى جَزَاءَ الشُّكْرِ شُكْرًا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، فَالْمُرَادُ مِنَ الشَّاكِرِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى كَوْنُهُ مُثِيبًا عَلَى الشُّكْرِ، وَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ عَلِيمًا أَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ، فَلَا يَقَعُ الْغَلَطُ لَهُ أَلْبَتَّةَ، فَلَا جَرَمَ يُوصِلُ الثَّوَابَ إِلَى الشاكر والعقاب إلى المعرض.

[[سورة النساء (٤) : آية ١٤٨]]

لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨)

فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا هَتَكَ سِتْرَ الْمُنَافِقِينَ وَفَضَحَهُمْ وَكَانَ هَتْكُ السِّتْرِ غَيْرَ لَائِقٍ بِالرَّحِيمِ الْكَرِيمِ ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَجْرِي مَجْرَى الْعُذْرِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُحِبُّ إِظْهَارَ الْفَضَائِحِ/ وَالْقَبَائِحِ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ عَظُمَ ضَرَرُهُ وَكَثُرَ مَكْرُهُ وَكَيْدُهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَجُوزُ إِظْهَارُ فَضَائِحِهِ، وَلِهَذَا

قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اذْكُرُوا الْفَاسِقَ بِمَا فِيهِ كَيْ تَحْذَرَهُ النَّاسُ»

وَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ قَدْ كَانَ كَثُرَ مَكْرُهُمْ وَكَيْدُهُمْ وَظُلْمُهُمْ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَعَظُمَ ضَرَرُهُمْ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَ اللَّه فَضَائِحَهُمْ وَكَشَفَ أَسْرَارَهُمْ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ إِذَا تَابُوا وَأَخْلَصُوا صَارُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَتُوبُ بَعْضُهُمْ وَيُخْلِصُ فِي تَوْبَتِهِ ثُمَّ لَا يَسْلَمُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ التَّعْيِيرِ وَالذَّمِّ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ مَا صَدَرَ عَنْهُ فِي الْمَاضِي مِنَ النِّفَاقِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُحِبُّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، وَلَا يَرْضَى بِالْجَهْرِ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَأَقَامَ عَلَى نِفَاقِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكْرَهُ ذَلِكَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ مِنْ عِبَادِهِ فِعْلَ الْقَبَائِحِ وَلَا يَخْلُقُهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَحَبَّةَ اللَّه تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنْ إِرَادَتِهِ، فَلَمَّا قَالَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ خَالِقًا لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ لَكَانَ مُرِيدًا لَهَا، وَلَوْ كَانَ مُرِيدًا لَهَا لَكَانَ قَدْ أَحَبَّ إِيجَادَ الْجَهْرِ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، وَإِنَّهُ خِلَافُ الْآيَةِ.

وَالْجَوَابُ: الْمَحَبَّةُ عِنْدَنَا عِبَارَةٌ عَنْ إِعْطَاءِ الثَّوَابِ عَلَى الْفِعْلِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَرَادَهُ وَلَكِنَّهُ مَا أَحَبَّهُ واللَّه أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِنَّهُ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، وَلَا غَيْرَ الْجَهْرِ أَيْضًا، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْوَصْفَ لِأَنَّ كَيْفِيَّتَهُ الْوَاقِعَةَ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا

[النساء: ٩٤] والتبين واجب في الظعن والإقامة، فكذا هاهنا.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ قَوْلَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، أَوْ مُتَّصِلًا.

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ هَذَا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ عَلَى تَقْدِيرِ: إِلَّا جَهْرَ مَنْ ظُلِمَ. ثُمَّ حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، الثاني: قال الزجاج:

المصدر هاهنا أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يُحِبُّ اللَّه الْمُجَاهِرَ بِالسُّوءِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>