للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْعِبَادَاتِ، فَكَانَ الْغَرَضُ مِنَ التَّكْرِيرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَثُّ الْعِبَادِ عَلَى تَكْرِيرِهَا الرَّابِعُ: ذَكَرَ قَوْلَهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ أَوَّلًا: لِيُعْلِمَ أَنَّهُ لَا تَحِقُّ الْعِبَادَةُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَذَكَرَهَا ثَانِيًا: لِيُعْلِمَ أَنَّهُ الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ لَا يجوز وَلَا يَظْلِمُ.

أَمَّا قَوْلُهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَالْعَزِيزُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَالْحَكِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْعِلْمِ، وَهُمَا الصِّفَتَانِ اللَّتَانِ يَمْتَنِعُ حُصُولُ الْإِلَهِيَّةِ إِلَّا مَعَهُمَا لِأَنَّ كَوْنَهُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِمَقَادِيرِ الْحَاجَاتِ، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِ الْمُهِمَّاتِ، وَقَدَّمَ الْعَزِيزَ عَلَى الْحَكِيمِ فِي الذِّكْرِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ عَالِمًا فِي طَرِيقِ الْمَعْرِفَةِ الِاسْتِدْلَالِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ مُقَدَّمًا فِي الْمَعْرِفَةِ الِاسْتِدْلَالِيَّةِ، وَكَانَ هَذَا الْخِطَابُ مَعَ الْمُسْتَدِلِّينَ، لَا جَرَمَ قَدَّمَ تَعَالَى ذِكْرَ العزيز على الحكيم.

[[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩]]

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ] وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى كَسْرِ (إِنَّ) إِلَّا الْكِسَائِيَّ فَإِنَّهُ فَتَحَ (أَنَّ) وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي قَبْلَهُ قَدْ تَمَّ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْكِسَائِيِّ فَالنَّحْوِيُّونَ ذَكَرُوا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّقْدِيرَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَذَلِكَ لِأَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى وَاحِدًا مُوجِبٌ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ الْحَقُّ هُوَ الْإِسْلَامُ لِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ الْمُشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالثَّانِي: أَنَّ التَّقْدِيرَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ يُجْعَلَ الثَّانِي بَدَلًا مِنَ الْأَوَّلِ، ثُمَّ إِنْ قُلْنَا بِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّوْحِيدِ نَفْسِهِ كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ قَوْلِكَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا نَفْسَهُ، وَإِنْ قُلْنَا: دِينُ الْإِسْلَامِ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّوْحِيدِ كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ، كَقَوْلِكَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا رَأْسَهُ.

فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَجَبَ أَنْ لَا يُحْسَبَ إِعَادَةُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يُقَالُ: ضَرَبْتُ زَيْدًا رَأْسَ زَيْدٍ.

قُلْنَا: قَدْ يظهرون الاسم في موضع الكناية، قَالَ الشَّاعِرُ:

لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شي

وَأَمْثَالُهُ كَثِيرَةٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ مَنْ قَرَأَ أَنَّ الدِّينَ بِفَتْحِ (أَنَّ) كَانَ التَّقْدِيرُ: شَهِدَ اللَّهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ إِذَا كَانَ هُوَ الدِّينَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَاللَّهُ تَعَالَى شَهِدَ بِهَذِهِ الْوَحْدَانِيَّةِ كَانَ اللَّازِمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامَ، وَمَنْ قَرَأَ إِنَّ الدِّينَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، فَوَجْهُ الِاتِّصَالِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ التَّوْحِيدَ أَمْرٌ شَهِدَ اللَّهُ بِصِحَّتِهِ، وشهد به الملائكة وأولوا الْعِلْمِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَصْلُ الدِّينِ فِي اللُّغَةِ الْجَزَاءُ، ثُمَّ الطَّاعَةُ تُسَمَّى دِينًا لِأَنَّهَا سَبَبُ الْجَزَاءِ، وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَفِي مَعْنَاهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ أَوْجُهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ أَيْ فِي الِانْقِيَادِ وَالْمُتَابَعَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ [النِّسَاءِ: ٩٤] أَيْ لِمَنْ صَارَ مُنْقَادًا لَكُمْ وَمُتَابِعًا لَكُمْ وَالثَّانِي: مَنْ أَسْلَمَ أَيْ دَخَلَ